بريطانيا تتحوط لأفول شمس الإمبراطورية الأمريكية
جديون راشمان من لندن"روما سقطت. بابل سقطت. دور هندهيد سيأتي". ملاحظة جورج برنارد شو الساخرة في كتاب "تحالف غير موفق" كانت بمنزلة تذكير لجمهور المسرح البريطاني في عام 1910 بأن جميع الإمبراطوريات تتراجع وتسقط في نهاية المطاف. وحقيقة أن هندهيد هي قرية إنجليزية كانت ذريعة مرحة تعبر عن حقيقة خطيرة.
باعتباره إيرلنديا، قد يجد شو المزاح حول تراجع الإمبراطورية البريطانية أسهل من الإنجليز. لكن، في هذه الأيام، غالباً ما يقع الأمر على عاتق الأكاديميين البريطانيين العاملين في أمريكا للعب دور الغريب المُطّلع، من خلال التعليق على تراجع القوة العالمية البارزة اليوم، وهي الولايات المتحدة. في النقاش المستمر منذ فترة طويلة حول مستقبل القوة الأمريكية، بعض "المؤمنين بالتراجع" الأكثر نفوذاً هم مؤرخون بريطانيون يعملون في الجامعات الأمريكية: بول كينيدي في جامعة ييل، ونيال فيرجسون في جامعة هارفارد، وإيان موريس في جامعة ستانفورد.
هذا الميل البريطاني للاعتقاد بأن "إمبراطورية" أمريكا ستتراجع هو أكثر من مجرد فضول للنقاش الفكري؛ لأن له آثارا في العالم الحقيقي. خلف الكواليس، يبدو أن كثيرا من صنّاع السياسة البريطانيين أيضاً يعملون على افتراض أن نهوض الصين المستمر والتراجع النسبي في أمريكا كلاهما أمر لا مفر منه. نتيجة لذلك يتخذون قرارات تعكس تكيّفا حذرا أمام رياح التغيير هذه. قرار بريطانيا الأخير تحدّي واشنطن والانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين مجرد قشة واحدة في تلك الرياح.
كذلك كان للبريطانيين "المؤمنين بالتراجع" تأثير كبير في نقاش أمريكا الخاص بشأن المستقبل. كتاب كينيدي "نهوض وسقوط القوى العظمى" تصدّر قائمة الكتب الأفضل مبيعاً في الولايات المتحدة عندما صدر في عام 1987، وعمل على تشكيل النقاش منذ ذلك الحين. في أواخر الثمانينيات، عصر عجز الميزاينة المرتفع والتراجع الصناعي، كانت حجته التي تقول إن أمريكا - مثل إسبانيا وبريطانيا قبلها – ستخضع لقانون "التوسع الإمبراطوري المفرط" تبدو مُقنعة بشكل خاص. ومن خلال إعادة صياغة كلمات شو، تنبأ بأن: "روما سقطت؛ بابل سقطت؛ ودور سكارسديل سيأتي".
فيرجسون، مؤرخ الإمبراطورية البريطانية وكثير غيرها، أصبح أيضاً بمنزلة مُفكّر شعبي في الولايات المتحدة. صدر كتابه "العملاق .. نهوض وسقوط الإمبراطورية الأمريكية" في عام 2004، تماماً عندما تورطت أمريكا في العراق. وفي وقت لاحق، جادل فيرجسون بأن: "القرن الحادي والعشرين سينتمي إلى الصين".
العضو الثالث من هذا الثُلاثي البريطاني الذي يؤمن بالتراجع، إيان موريس، أثار ضجة بكتابه "لماذا يسود الغرب - حتى الآن" (2010). وهو مشغول أيضاً بنهوض وسقوط الإمبراطوريات، ويرسم أوجه تشابه بين أمريكا الحديثة وبريطانيا في عهد إدوارد السابع.
من الممكن أن الأساتذة البريطانيين العاملين في أمريكا يملكون التركيبة المناسبة من المعرفة والانفتاح لتكون لديهم نظرة واضحة لمستقبل أمريكا. بدلاً من ذلك، من الممكن أيضاً أنهم ربما يُبالغون في إسقاط مصير الإمبراطورية البريطانية على خليفتها الأمريكية الأكثر قوة بكثير. جوزيف ناي، الأستاذ في جامعة هارفارد (أمريكي) يُشير إلى أنه: "مع اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا في المرتبة الرابعة فقط بين القوى العظمى (...) فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي، وفي المرتبة الثالثة فيما يتعلق بالإنفاق العسكري". في المقابل، أمريكا لا تزال تملك أكبر أو ثاني أكبر اقتصاد في العالم (اعتماداً على المقياس الذي تختاره) والميزانية العسكرية الكبرى بسهولة.
أكثر من ذلك، انهيار الإمبراطورية البريطانية تسارع بسبب آثار الاستنزاف من الحربين العالميتين، اللتين تركتا المملكة المتحدة قريبة من الإفلاس. إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع تفادي الانجراف إلى صراع عالمي مماثل، فمن المفترض أن تقوم بعمل أفضل في الحفاظ على قوتها.
لكن حتى لو كان البريطانيون مخطئين في إسقاط ماضيهم الخاص على مستقبل أمريكا، فإن العادة متأصلة بعمق. لقد رأيت ذلك بنفسي. في إحدى المناسبات الأخيرة، تحدث أحد كبار الموظفين البريطانيين المتقاعدين ببلاغة عن تراجع نفوذ بلاده على مدار حياته المهنية، قبل أن يتوقع أن الجيل المقبل سيرى تراجعاً مماثلاً في القوة الأمريكية. في مأدبة عشاء أخرى، أحد الوزراء البريطانيين أخبر زائراً من واشنطن أنه سيكون على الولايات المتحدة في النهاية الانسحاب من المحيط الهادي الغربي، تماماً كما انسحبت بريطانيا فيما مضى من المناطق الواقعة "شرق عدن". ضيفه المندهش قام ببساطة بهز رأسه.
الآثار المترتبة على هذا النوع من التفكير على السياسة البريطانية، والتضامن الغربي، بدأت بالظهور للتو. مع تسارع إنهاء الاستعمار البريطاني في الستينيات وظهور قوة أمريكا، هارولد ماكميلان، أحد رؤساء الوزراء في ذلك الحين، أشار إلى أن البريطانيين قد يكونون قادرين على لعب دور اليونانيين الحكماء الذين أخذت قوتهم في التراجع مقابل الأمريكيين الذين أخذوا في الصعود مثل الإمبراطورية الرومانية. لكن الآن بما أن البريطانيين يشعرون بأن واشنطن - روما ـ قد تكون في طريقها إلى الزوال، فقد بدأوا يتكيّفون مرة أخرى.
يملك البريطانيون تاريخاً في إجراء التعديلات العملية. استجابة لفقدان الإمبراطورية، عملت حكومة ماكميلان على إضعاف الروابط مع المستعمرات البريطانية السابقة في الكومونويلث لمصلحة ربط نفسها مع قوة جديدة متصاعدة، التي - في ذلك الحين - كانت تبدو أنها الجماعة الاقتصادية الأوروبية. وعلى الرغم من أن بعض المحافظين اشتكوا من التخلّي عن "الأقارب" في الكومونويلث، إلا أن الاعتبارات التجارية والسياسية أصبحت ذات أهمية أكبر.
قرار بريطانيا الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية القائم في بكين هو خطوة أصغر وأقل أهمية بكثير من قرار "الانضمام إلى أوروبا". إنه بمنزلة تحوّط ضد المستقبل، بدلاً من كونه تنصّلا من العلاقة الخاصة مع واشنطن. مع ذلك، هو أيضا علامة صغيرة على الطريقة التي من المرجح أن تستجيب بها بريطانيا للتحوّلات في القوة العالمية في العقود المقبلة. ليس من قبيل الصدفة أنهم يطلقون علينا "البريطانيون الماكرون الذين لا يوثق بهم".