قراءة في خرائط مراكز الفكر الأمريكية(1)
21-2-2005
"وتبدو خطورة هذه المراكز البحثية في أمرين أساسيين: أولا، كونها ترتدي ثوب الحياد الأكاديمي وترفع شعار المصالح الوطنية الأمريكية أمام منتقديها، وثانيا، التأثير المتزايد الذي تمارسه علي السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تخلت عن هذا الحياد وأصبحت في معظمها تخدم توجهات أيدلوجية معينة. ويطرح هذا النفوذ تساؤلات مهمة بخصوص الدور الحقيقي الذي تلعبه هذه"
بقلم أميمة عبداللطيف

بالأمس أصدرت مجموعة من الدبلوماسيين الأمريكيين المخضرمين بيانا شنوا فيه حملة قوية ضد السياسة الخارجية لإدارة الرئيس جورج بوش التي "خلقت أعداء" و"أبعدت الأصدقاء".
ومن بين أهم اللاعبين في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، الذين ساهموا في وضع أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، مجموعة من الخبراء الذين ينتمون لما اصطلح على تسميته بمراكز الفكر. ويشعر الرئيس بوش بامتنان شديد لهؤلاء حتى إنه في الحفل السنوي لمعهد المشروع الأمريكي American Enterprise Institute (أحد أهم هذه المراكز البحثية) توجه إليهم قائلا: "في هذا المعهد هناك مجموعة من أفضل العقول الأمريكية وأنتم تقومون بعمل جيد لدرجة أن إدارتي استعارت منكم عشرين من هذه العقول المفكرة، وأريد أن أشكرهم لخدماتهم". فأي خدمات إذن تقدمها هذه المراكز للإدارة الأمريكية وفي أي مجالات وأي أجندة تخدم؟
في السياسة لا تترجم المعلومات إلي قوة ونفوذ إلا إذا قدمت بالشكل الصحيح وفي الوقت الصحيح، هذه العبارة تختصر مهمة مراكز الفكر (Think Tanks) التي تزايدت أعدادها بشكل مطرد وتعزز نفوذها ودورها في التأثير علي مجريات النقاش العام في الغرب بصفة عامة وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة. لقد أشبعت مراكز الفكر، كما يقول جيمس ماك جين أحد زملاء معهد بحوث السياسات، النهم للمعلومات والتحليل المنهجي، لقد صارت هي المصدر الرئيس ليس فقط للتزود بالمعلومات بل في معظم الأحيان يستعان بها لوضع وتقرير أجندة السياسات.
وتبدو خطورة هذه المراكز البحثية في أمرين أساسيين: أولا، كونها ترتدي ثوب الحياد الأكاديمي وترفع شعار المصالح الوطنية الأمريكية أمام منتقديها، وثانيا، هو التأثير المتزايد الذي تمارسه علي السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تخلت عن هذا الحياد وأصبحت في معظمها تخدم توجهات أيدلوجية معينة. ويطرح هذا النفوذ تساؤلات مهمة بخصوص الدور الحقيقي الذي تلعبه هذه المراكز في التأثير على عملية رسم السياسة الخارجية الأمريكية من جهة، وما هي حدود هذا الدور؟ وهل ثمة سقف ما تقف عنده ولا تتخطاه؟ أم أن ما يحدد هذا النفوذ هو فقط الموضوع الذي تسعي للتأثير عليه؟ بل وتحديد الطريقة والكيفية التي يتم بها تناول قضايا بعينها؟ وبأي طريقة؟ وماهي القنوات التي تسعي من خلالها مراكز الفكر تلك للتأثير في صناع القرار من ناحية والرأي العام من ناحية أخرى.
تنبع أهمية مراكز الفكر من أنها أصبحت في السنوات الأخيرة أشبه بالظاهرة العالمية، بل وبدا أن ثمة ما هو أشبه بعملية تصنيع لتلك المراكز التي بدأت تفرخ في دول عدة متخذة من النموذج الأمريكي المثال الأبرز. لقد بدأت تلك المراكز كظاهرة أمريكية بامتياز، وبالتالي فثمة فاصل يميز مراكز الفكر الأمريكية عن مثيلاتها في الدول الأخرى، وهو قدرة هذه المراكز في الولايات المتحدة على المشاركة بشكل مباشر وغير مباشر في عملية رسم السياسات، ليس هذا فحسب وإنما- وفق قول أحد الأكاديميين الكنديين- هناك استعداد شبه فطري من قبل صانعي القرار للجوء لتلك المراكز من أجل الحصول علي النصائح والاستشارة حول موضوعات السياسة الخارجية والمحلية.
المهمة الأولى بالأساس لتلك المراكز إذن هي صناعة الأفكار والعمل على ترويجها على مستوى صانع القرار والرأي العام. في كل أنحاء العالم هناك حوالي 4500 مركزا بحثيا، وما يقارب 2000 منها موجود بالولايات المتحدة، من بينها تسع مراكز بحثية تعد من أهم المراكز البحثية وأكثرها نفوذا وتتراوح ميزانيتها مابين 3 ملايين إلي ثلاثين مليون دولار وعمالة مابين 35 إلى 200 موظفا.
يحاول الأكاديمي الكندي دونالد إبلسون في ورقة بحثية مهمة بعنوان قراءة تاريخية لمراكز الفكر والسياسة الخارجية، تفسير الصعود المفاجئ في السياسة الأمريكية لبعض مراكز الفكر والسبب الذي أدى بها لأن تكون ملمحا أساسيا من ملامح الخريطة السياسية الأمريكية، ولماذا يلجأ إليها صانعو القرارات ومشرعو الكونجرس والإدارة البيروقراطية والفيدرالية من أجل الحصول على نصائح؟.
يعزو إبلسون هذا الصعود إلى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر دفعت بالصحفيين والميديا الأمريكية للبحث عن تفسيرات لفك ألغاز الهجوم، فتحولوا بأنظارهم كلية للمراكز البحثية التي ما كانت لتفوت هكذا فرصة دون أن تستغلها لتقوية نفوذها. فقد أمدتهم بـ "خبراء السياسة" والمحللين الذين وجدوا طريقهم لشبكات التلفزة والجرائد الكبرى وأصبحوا يتمتعون بظهور إعلامي مكثف. إن استعداد هذه المراكز لأن تمارس اللعبة الإعلامية التي صاحبت أحداث سبتمبر لم تكن مفاجئة لأنها أتاحت الفرصة لتلك المراكز لأن تقوي نفوذها، مما مهد الطريق لأن تنخرط بشكل نشط في عملية اتخاذ القرار وصنع السياسات.
مراكز الفكر: رؤية تاريخية:
يتفق الباحثون الذين قاموا برصد عملية نمو وتطور مراكز الفكر الأمريكي على أن السبب الرئيس وراء تكاثر وانتشار هذه المراكز خلال الربع قرن الماضي ناتج عن تزاوج بين ثلاثة عناصر أساسية: الطبيعة اللامركزية للنظام السياسي الأمريكي وعدم وجود أسس حزبية صارمة والمعونات المالية المتدفقة من المنظمات ذات التوجهات الأيدلوجية المختلفة. غير أنه ليس ثمة اتفاق حول أول مركز بحثي أسس بالولايات المتحدة، لكن هناك شبه إجماع على أنه كانت هناك موجات شهدت نموا وصعودا في فترات زمنية متفاوتة.
وثمة اتفاق أيضا على تعريف تلك المراكز بأنها كيانات ذات توجه بحثي ولا تهدف لتحقيق الربح، كما وأنه ليست لديها أية انتماءات حزبية وإن كان هذا لا ينفي كونها ذات خلفية أيدلوجية، هدفها الأول، ممارسة التأثير علي الرأي العام والسياسات العامة.
وبطبيعة الحال هناك تباين في الأحجام ما بين مراكز الفكر تلك، فمؤسسة راند مثلا التي تعني بتحليل السياسات الدفاعية والخارجية ولديها ميزانية سنوية ضخمة تقدر بحوالي 100مليون دولار ويبلغ عدد العاملين بها حوالي 1000، وبين مراكز بحثية أكثر تواضعا مثل معهد دراسات السياسات العامة الذي يعمل به أقل من 24 فردا وبميزانية تتراوح بين 1-2 مليون دولار.
ورغم عدم إمكانية تحديد تاريخ الذي أسس فيه أقدم هذه المراكز إلا أن ظهورها يعود لأوائل القرن الماضي، وكانت ترجمة لرغبة بعض علماء اللغويات والمثقفين لخلق فضاءات ونقاط تجمع للأكاديميين وقادة الرأي العام لمناقشة الشئون السياسية.
يشير إبلسون في دراسته إلى ستة من أقدم هذه المراكز هي:
1-مؤسسة كارنيجي (Carnegi) للسلام العالمي: تأسست في عام 1910 علي يد بارون الحديد أندرو كارنيجي.
2- معهد هوفر للحرب والثورة والسلام ( Hoover ) تأسس في العام 1919
3- مجلس العلاقات الخارجية وهو أحد أهم مراكز السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، تأسس في العام 1921.
4- معهد البحوث الحكومية ، تأسس في عام 1916 وانضم لاحقا لمعهدين آخرين ليشكلا معهد بروكينجز 1927 وهو أيقونة مراكز الفكر في واشنطن الآن.
5- معهد المشروع الأمريكي لبحوث السياسات ، تأسس في العام 1943 وقد بزغ نجمه في خلال العقدين الماضيين حيث إنه أحد أهم مراكز الفكر اليميني وبوتقة تضم صقور المحافظين الجدد.
يقسم إبلسون هذه المراكز حسب نشأتها إلي أربعة أجيال أساسية. الجيل الأول من مراكز الفكر ظل حريصا علي أن ينأى بنفسه عن الانخراط في العملية السياسية، لأنها أرادت الاحتفاظ بمسافة ما بينها وبين السياسيين الأمريكيين حتى تحافظ على استقلالها وحيادها الأكاديمي وهو أمر كما سنرى لاحقا أصبح غير ذي معني بالنسبة لمراكز الفكر المعاصرة.
الجيل الثاني نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وذلك بعد بزوغ الولايات المتحدة كقوة منتصرة، فأصبحت الحاجة ملحة أكثر بالنسبة لصانع القرارات للحصول علي خبرات مراكز الفكر من أجل التأسيس لسياسات جديدة للأمن القومي والسياسات الأمنية. في مايو 1948 أتت مؤسسة راند إلى الوجود، ولم تكن راند مثل سابقتها من مراكز الفكر ذلك أن نشأتها دشنت لجيل جديد من مراكز الفكر التي لقبها إبلسون بـ (مقاولي الحكومات) فهي معهد لأبحاث السياسات يمول من قبل الحكومة الفيدرالية والهيئات الحكومية الأخرى لأن أهدافها البحثية تسعي لمخاطبة اهتمامات صانعي القرار وكانت نشأة راند قد أوحت بإقامة عدد أخر من مراكز الفكر علي شاكلتها مثل معهد هدسون الذي أسس عام 1961.
أما الجيل الثالث فأهم ما يميزه أنه علي العكس من الجيل الأول الذي لم ينخرط في أية أنشطة سياسية، فإن مراكز الفكر المنتمية لهذا الجيل مثل مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية (1962) وهيرتدج فاونديشن (1973) ومعهد كاطو (1977) أصبح يتحين الفرصة لممارسة نفوذ علي اتجاه ومحتوى السياسة الخارجية الأمريكية. ومع تزايد عدد مراكز الفكر بل وتطور صناعة مراكز الفكر ذاتها أدى إلى خلق علاقة أهم ملامحها هو التنافسية، بل إن ثمة تزايد في إدراك بعض القائمين علي هذه المراكز على ضرورة الاستيلاء علي انتباه الرأي العام وعلي عقول صانعي السياسات.
ثم هناك الجيل الرابع والأخير من المراكز وهي التي يصنفها إبلسون علي أنها المعاهد التي تؤسس لتخليد الإرث السياسي لشخصية ما مثل معهد كارتر بأطلانطا ومعهد نيكسون للحرب والسلام بواشنطن ومعهد جيمس بيكر.
كيف يمارسون نفوذهم:
تمارس المراكز الفكرية نفوذها عبر عدة إستراتيجيات مثل:
1- تشجيع الباحثين المرتبطين بهذه المعاهد علي تقديم محاضرات في الجامعات
2- تقديم شهادات أمام اللجان التشريعية
3- تكثيف الظهور الإعلامي لهم من خلال وسائل الإعلام الأمريكية، ومن خلال كتابة مقالات في الصحف الأمريكية ذات الانتشار الواسع والعمل علي نشر أبحاثهم وعمل مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت.
ويكشف إبلسون عن أن هؤلاء الخبراء يحرصون علي أن يكونوا أكثر انخراطا في العملية السياسة والسياسة الخارجية الأمريكية، وذلك من خلال قبول مناصب حكومية في الوزارة أو الحكومة الفيدرالية، وحتى بعد أن يخدموا في الحكومة، هناك الكثير الذي يعود مرة أخرى لمراكز الفكر تلك ويقدم خدماته كمستشار خلال الانتخابات الرئاسية والمجالس الاستشارية في الكونجرس، وتحرص المراكز أيضا علي دعوة صانعي القرار، في وزارات الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي والمخابرات المركزية وغيرها من وكالات المخابرات، للمشاركة في ندوات خاصة ومغلقة وتزويدهم بملخصات سياسية ودراسات حول موضوعات السياسة الخارجية الحالية.
ورغم أن إبلسون يقول بأن مراكز الفكر تلك تمارس نفوذا ةبيرا على عملية رسم السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أنه من المهم إدراك أن حجم هذا النفوذ يتباين بحسب الموضوعات، فبينما تمارس مراكز مثل معهد المشروع الأمريكي وهيرتدج فاونديشن نفوذا على النقاش الدائر حول الصواريخ الدفاعية وملف الشرق الأوسط، فإن هناك آخرين مثل راند أكثر نفوذا في العمل مع صانعي السياسات لتقييم تكلفة عمل تكنولوجيا عسكرية متطورة.
Comment