أضحت الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان مطلبًا للإنسانيّة جمعاء، فمنها من أنجزها ومنها من أنجز جزءًا صغيرًا أو كبيرًا، حسب ظروف كلّ بلد ودرجة اقتراب شعبه من الحداثة أو بعده عنها. وحتّى تلك الشّعوب التي عانت من الاستبداد، قد أضحت لها فكرة جليّة عن أهدافها المستقبليّة في الدّيمقراطيّة، وحقوق الإنسان، ووضعتها على أولويّات برامجها الانعتاقيّة. إلاّ أنّ الوضع في البلاد العربيّة يبدو شاذًا في هذا المشهد الإنساني لهذه الظّاهرة الكونيّة، فلماذا؟
يبدو للمراقب أنّ ثمّة شيئاً لدى الشّعوب العربيّة يشذّ عن سلوكيات الإنسان المعاصر، حتّى إنّ تقبّلها للاستبداد يكاد يكون عنصرًا بنيويًّا في تكوينها. فعندما تنظر إلى مجتمع العراق والأحداث التي جرت على أرضه مؤخّرًا وعلى سبيل المثال، تلاحظ أنّه مجتمع أبوي غير قادر على تحمّل المسؤوليّة. فبعيد سقوط نظام صدّام، هرع كثير من العراقيّين إلى الحوزات والحسينيات يستشيرون رجال الدّين أو إلى خيم زعماء العشائر، يرشدونهم إلى السّلوك الأمثل الواجب اتّباعه، أي أنّهم ذهبوا يبحثون عن أبٍ اجتماعي جديد قديم. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على عزوف كثير من العراقيّين عن تحمّل المسؤوليّة في العمل السّياسي والاجتماعيّ. لقد هالهم تحمّل مسؤوليّة أفعالهم الحرّة، لأنّ التّحمّل الواعي لهذه المسؤوليّة هو الركن الرّكين في اعتناق الحريّة وتحمّل تبعاتها.
وبدون الدّخول في بحث أكاديمي لا تتّسع له حدود هذه المقالة..نستطيع وبكلّ اطمئنان أن نقرّر أنّ الشّعب العراقي مثله مثل كافة الشّعوب العربيّة، يعاني من مرض مزمن هو غياب فكرة الفرد.لأنّ فكرة الفرد هي فكرة عصريّة حقّقها الإنسان بعد صراع مرير من أجل انعتاقه من كافة المؤسّسات الدّينيّة ورجالها، ومن كافة أشكال الحكومات التي تستمدّ شرعيتها من عالم الغيب، كأن تنبني على التّفويض الإلهيّ، ومن كلّ الأفكار التي تكرّس تدجين الإنسان ودمجه في قطيع سلس الانقياد.
هذه الأفكار وهذه النّضالات لم يعرفها الإنسان العربي ولم يخض معاركها حتّى الآن، لأنّه ما زال قابعا على هامش الحداثة. كلّ ما عرفه الإنسان العربي تلك المؤسّسات الأهليّة من عشيرة وقبيلة وطائفة، وهذه المؤسّسات الجماعيّة التّجميعيّة لا تؤمن بالفرد بل إنّ وجودها هو نفي للفرد ووجود الفرد نفي لها. ففكرة الفرد هي فكرة المجال الحيوي الذي يسمح للإنسان بالتّحكّم في عقله وجسمه كما قال فولتير: "الفرد هو الشّخص المالك لرأسه وفرجه". فعندما لا يملك الإنسان عقله فلا يمكن له أن يبدع لأنّ الإبداع حالة فرديّة بامتياز، كما أنّه لا يستطيع التّفكير خارج مسارب الدّوقما الجمعيّة، ولا يكون قادرًا على الاقتراب من المسكوت عنه والممنوع التّفكير فيه واللاّمفكر فيه، لأنّ هذه الأسيجة العقائديّة هي وحدها التي تحافظ على تماسك هذه التّجمّعات البشريّة البدائيّة، وهي نفسها التي تعيق انبثاق فكرة الفرد المالك لرأسه أي المستقل الفكر والرؤية.
وعندما يمنع الإنسان من امتلاك فرجه، وتشاركه في ملكيّته القبيلة أو العشيرة أو الطائفة، قد يفقد حياته إذا ما حاول التمرّد على هؤلاء المغتصبين، وليس أدلّ على ذلك من العقوبات القاسية التي سنتها هذه الجماعات في تشريعاتها مثل "رجم الزّاني" كما ورد في التوراة (سفر التّثنية).
لذلك يجب أن نتفحّص حياتنا بنوع من الدّقة حتّى يتسنّى لنا تشخيص حالتنا المعيشيّة هذه، فنحن كنّا نعيش في ظلّ سلطنات وخلافات حكمتنا على مدى التّاريخ باسم الدّين أو باسم الأمّة. والأمّة هنا ليس لها المعنى الحديث، بل لها معنى القبيلة الكبرى. وقد استمرّت فكرة الأمّة من إسلاميّة وعربيّة على نفس السّياق القبلي والعشائري متلبّسة بالدّين أو جاعلة إيّاه مرجعيّة لها. لذلك اعتبر أنّ ما كان يصلح للقرون السّابقة هو ما يصلح للعصور اللاّحقة، ولذلك وضع النقلُ العقلَ في متحف التّاريخ وإلى الأبد.
ففكرة الأمّة القبيلة تطمس الإنسان وتغيبه، وتعتبر الفرد الخارج عن الإجماع عدوّا أساسيّا تجب تصفيته، لأنّه يمثّل اِعتداء حقيقيّا على وحدة الأمّة "القبيلة". فما كان لهذه التجمّعات البشريّة البدائيّة إلاّ أن تُؤَسَسْ اجتماعها على عبوديّة الإنسان للمجموع وضبط قطيع النّاس، وضرب بروز أيّ فكرة فرديّة وإدانتها بالخلع أو بالتّكفير أو بالتّخوين كما كانت القبائل العربيّة في الجاهليّة تخلع أحد أعضائها إذا حاول أن يخرج رأسه من سياج عبادة الأسلاف وتتبرّأ منه وتبيح دمه، وهذا ما عرف بظاهرة الخلعاء. أمّا بعد الإسلام فأصبحت هذه الظاهرة تكبح بالتكفير والاتّهام بالزّندقة.
وفي العصر الحديث، وباستحداث الفكرة القومية اصطلاحًا مع بقاء الممارسات القبليّة فعلاً، أصبحت فكرة الفرديّة تُضرَب بتهمة الخيانة والخروج عن ثوابت الأمّة. لهذا نلاحظ أنّ الإنسان العربي لم يتذوّق طعم الحريّة الفرديّة طيلة تاريخ وجوده على الأرض، ومن ثمّ ما كان له أن يلبي موعدًا مع قدره إذا لاحت في الأفق بارقة أمل، حتّى يأخذ زمام المبادرة ويتحمّل مسؤوليّة أفعاله وتبعات خياراته، فنجده يهرب فورًا للبحث عن أب جديد يزجّه في قطيع، مستسلمًا لشعور الطمأنينة النّابع من حماية المجموع وربوبيّة الأب.
إذًا فالإنسان العربي لا يخرج من سيطرة أب حتّى يقع في استبداد أب آخر. فظاهرة الأب المسيطر التي تقوّض أي هامش للحريّة لدى الإنسان وتحدّ من طموحاته في أن يكون فردًا، تتمحور حول فكرة طوباويّة، هي الحفاظ على تماسك الجماعة، وتبنى في الغالب على أسطورة مؤسِسَة هي عبادة الأسلاف. وتتّخذ في الغالب هذا النّوع من التّداعي.
Comment