صاحبنا صدام
*ميشال ديبرات وباري لاندو
Michel Despratx et Barry Lando
في مقهى في وسط بغداد السابق راح الزبائن الذين سُئِلوا رأيهم في محاكمة الرئيس السابق صدام حسين المرتقبة يتناولون الموضوع بطابعٍ جديٍّ مذكّرين بجرائم الديكتاتور السابق أو بضرورة إجراء هذه المحاكمة. ثم بعد التفوّه ببعض الجمل راح الجميع يبتسمون ويشيحون بأنظارهم وكأنما للقول بأن المحاكمة لن تأتي بما هو جديّ. والكل متأكد من أن الولايات المتحدة تسيطر كلياً على المحكمة التي سيمثُل أمامها الديكتاتور السابق وأنه لن يجرى توجيه الاتهام إلى أي أجنبي أياً تكن الجرائم الشنيعة التي يمكن أن يكون ارتكبها في العراق. ويشدد أحد الأساتذة على أنه " إذا جرت هذه المحاكمة يوماً ما، وهذا ما أشك في حصوله، فإنها لن تطرح أبداً مسألة علاقة صدام حسين بالدول الأجنبية". ويضيف مهندس: "قد يؤدي هذا إلى فضح قضايا كثيرة ليست في مصلحة الغرب".
وإذ استشارته مراجع عليا في وزارة الخارجية، أوضح الخبير القضائي الأمريكي شريف بسيوني الذي لعب دوراً أساسياً في إنشاء هذه المحكمة: "لقد أُعِدَّ كل شيء لكي تشكل محكمة لا يكون قضاتها مستقلين إنما على العكس ممسوكين بقوة. وإذ أقول ممسوكين فإنما أعني أنه يجب على منظمي هذه المحكمة أن يتأكدوا من أن الولايات المتحدة وسائر القوى الكبرى الغربية لن تكون موضع اتهام. وأنظمة هذه المحكمة نفسها وضعت بشكل أن تبقى الولايات المتحدة وسائر الدول كليّاً في منأى عن الاتهامات. وهذا ما يجعل هذه المحاكمة محاكمة ناقصة وغير عادلة. إنه انتقام المنتصر".
وفي الواقع أن منظمي هذه المحاكمة الأمريكيين والعراقيين قد قرروا أن المحكمة الخاصة التي سوف تنظر في جرائم السيد صدام حسين لن توجّه تهمة التواطؤ إلى أي أجنبي، ما يعني إلى أي أمريكي أو بريطاني أو فرنسي. والحال أن تاريخ السنوات الأربعين الأخيرة زاخرٌ بالأمثلة على أن هناك من ليسوا من العراقيين، ومنهم خمسة رؤساء أمريكيين وعلى الأقل ثلاثة رؤساء فرنسيين وعدد من رؤساء الوزراء البريطانيين إضافةً إلى مجموعة من المستثمرين الغربيين، كانوا من المتواطئين، وأحياناً من المشاركين في الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي. ففي ظل رئاسة جون كينيدي كانت واشنطن بدأت دعم المجازر في العراق. ففي العام 1963 قررت الولايات المتحدة التصرف بعد أن شعرت بالقلق لرؤية الرئيس عبد الكريم قاسم يتقرب من موسكو ويهدد بتأميم قطاع النفط. وفي 8 شباط/فبراير عام 1963 دعمت الانقلاب الذي نفذه حزب سياسي معادٍ بقوة للشيوعية، هو حزب البعث. ويؤكد السيد جيمس أكنس، المستشار السياسي في سفارة الولايات المتحدة في بغداد إثر حدوث الانقلاب: "لقد قدمنا للبعثيين المال، الكثير من المال إضافة إلى التجهيزات. وهذا ما لم يتم الإعلان عنه لكن كثيرين منا كانوا يعرفونه".
وقد أقدم البعثيون، بعد أن أعدموا الرئيس قاسم، على قتل آلاف الشيوعيين ومناصري اليسار من أطباء وقضاة وعمال وتعذيبهم. ويقر السيد عبد الله هاتف، أحد منفذي هذه المجازر وهو اليوم مدير مدرسة ابتدائية في بغداد بـ "أننا لم نتلقَّ سوى أمرٍ واحد: اقضوا على الشيوعيين!" وقد كان صدام حسين الشاب متحمساً جداً. فكان يهتم بتعذيب العمّال بأن يُنفَخَ الرجال بواسطة الماء، وتكسّر عظامهم أو تمرر فيهم الكهرباء". هذا ما نفته واشنطن على الدوام غير أن العديد من قادة الانقلاب كشفوا أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعبت دوراً ناشطاً في هذه المجزرة وخصوصاً بتقديمها لوائحاً بأسماء الشيوعيين المطلوب اعتقالهم. وفي العام 2003، وفي مقابلة مع إحدى الوكالات الصحافية الكبيرة، أجاب أحد المسؤولين الدبلوماسيين السابقين، بعد أن طلب عدم ذكر اسمه: "لقد كنّا صراحةً سعداء بالتخلص من الشيوعيين! فهل تعتقدون أنهم يستحقون قضاءً أكثر عدلاً؟ أنتم تمزحون. لقد كانت المسألة جدية جداً!" [1].
ويؤكد تقرير لم ينشر حتى الآن حول اجتماع عقد في بغداد في 9 حزيران/يونيو عام 1963 [2] بين الأمريكيين والبعثيين على الرغبة "المشتركة للوقوف في وجه المد الشيوعي في المنطقة". والعدو المستهدف لم يكن محصوراً بالشيوعيين بل شمل الأكراد الذين كانوا يقاومون الحكم البعثي في شمال البلاد. وفي بغداد أكد السيد صبحي عبد الحميد [3] الذي كان يتولى في حينها قيادة عمليات الجيش العراقي ضد الأكراد أنه أجرى شخصياً مفاوضات مع الملحق الأمريكي حول تسلم خمسة آلاف قنبلة من أجل سحق المقاومة. "ثم منحنا الأمريكيون وبدون مقابل ألف قنبلة نابالم لنقصف بها القرى الكردية". وبحسب الأكراد الذي عايشوا عمليات القصف هذه، فقد أحرقت قنابل النابالم قطعان مواشٍ وقرى بأكملها. لكنهم كانوا يعتقدون في تلك الحقبة أن قنابل النابالم هذه قدمها السوفيات.
* في محاكمة السيد صدام حسين، سوف توجه التهمة إليه بأنه خاض في أيلول/سبتمبر عام 1980 حرباً على إيران تسببت بسقوط مليون قتيلٍ من الرجال والنساء. غير أن الكثير من الشهود يؤكدون أن واشنطن هي التي شجّعته على شن هذه الحرب. فقد كان الغرب هو الرابح الأكبر من رؤيته يتصدى للثورة الإسلامية البالغة الخطورة بقيادة آية الله الخميني. وهناك وثيقة حكومية أمريكية سرية جداً تعود إلى العام 1984 تكشف أن: "الرئيس كارتر قد منح صدام حسين الضوء الأخضر لكي يفجر هذه الحرب مع إيران" . لكن هل أن الولايات المتحدة، بعد إعطائها الضوء الأخضر، قد شاركت أيضاً في وضع مخطط المعركة ضد إيران؟ هذا ما يؤكده الرئيس الإيراني آنذاك، السيد الحسن بني صدر. فبحسب ما يرويه فإن مخابراته السرية قد اشترت نسخة عن هذا المخطط تقول مصادره أن عراقيين وأمريكيين كتبوه في أحد الفنادق الباريسية. "وما يجعلني أؤكد أنه حقيقي هو أن الحرب العراقية قد جرت بالضبط بحسب مخطط المعركة هذا! ولأننا حصلنا على هذا المخطط أمكننا التصدي للهجمات العراقية" [4].
ولقد وقفت واشنطن، رسمياً، على الحياد في الحرب الإيرانية - العراقية. إلا أن لجنة تحقيق أمريكية كشفت أن البيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية قد سلمت سراً صدام حسين كل أنواع الأسلحة ومن ضمنها القنابل الانشطارية. كما أن معلومات الأقمار الصناعية قد ساعدت في استهداف القوات الإيرانية بشكل أفضل، في الوقت الذي كانت واشنطن تعلم فيه أن القوات العراقية تستخدم الأسلحة الكيميائية. وبحسب السيد ريك فرانكونا، أحد ضباط الاستخبارات العسكرية الأمريكية الذين حملوا إلى بغداد، في العام 1988، لوائح بالأهداف الإيرانية المطلوب قصفها، أن هذه المعلومات هي التي أمنت النصر النهائي للعراق على إيران [5].
ومن الجرائم التي سيستجوب عليها السيد صدام حسين أمام المحكمة أيضاً مسألة استخدام الغازات السامة، في العام 1988، الذي أدى إلى مقتل خمسة آلاف مدني في بلدة حلبجة الكردية. بعد أن اتهمتهم بغداد بالتعاون مع الإيرانيين. وفي تلك الحقبة بذلت الولايات المتحدة وفرنسا كل الجهود كي تمنع إدانة السيد صدام حسين بهذه الجريمة. وليس فقط أن الرئيس رونالد ريغن وضع فيتو على قانون يقضي بحظر التجارة مع العراق، بل أن واشنطن أرسلت برقية إلى مختلف سفاراتها في العالم تطلب منها فيها التأكيد على أن أكراد حلبجة قتلوا بالغاز على يد ... الايرانيين.
كما أن فرنسا "نسيت" إدانة السيد صدام حسين بهذه الجريمة. فغداة هذه المأساة أصدرت حكومة ميشال روكار بياناً تستنكر فيه هذه الاعتداءات بالأسلحة الكيميائية "من أي جهةٍ أتت"، إنما دون أن تأتي أبداً على ذكر الرئيس العراقي. وهذا ما أوضح أسبابه السيد رولان دوما، وزير الخارجية آنذاك: "صحيح أن الغرب قد غض الطرف قليلاً، ذاك أننا رأينا في العراق دولة نحتاجها من أجل إقامة التوازن في المنطقة". أما السيد جان بيار شوفانمان، وزير الدفاع آنذاك فقد صرح لنا قائلاً: "إذا أردنا الحكم في قضية حلبجة بالإجمال، يفترض بنا العودة إلى الأهمية الحاسمة لهذه المنطقة في تموين العالم بالنفط، فمن يمسك بهذه المنطقة يتحكم بالتوازن المالي في العالم. وبالتالي ليس لدينا أبداً الخيار بين الخير والشر، بل لنا الخيار بين ما هو مرعب وما هو فظيع". وبمعزل عن حاجتها إلى البترول كانت فرنسا أيضاً المصدّر الأول للمعدات العسكرية إلى العراق. في باريس أبدى السيد بيار ماريون، الذي كان يتولى الإدارة العامة للأمن الخارجي(DGSE) في العام 1981، قلقه من دعم فرنسا فرنسوا ميتران للسيد صدام حسين. وهو يؤكد اليوم أن هذا الدعم كان يحض عليه تجار الأسلحة الذين كانت لهم كل المصلحة في استمرار الحرب العراقية الإيرانية. ويقول لنا السيد ماريون أن "شركة داسو كانت الشركة بائعة الأسلحة الأكثر استفادةً من هذه الحرب وأكثر من دفع في اتجاهها. وقد أمسكت بوسائل ضغط فعالة إلى أقصى حد وقوية على جميع الزعماء الفرنسيين". وفي العام 1992 عمدت جمعية أوروبية صغيرة تحمل أسم "قانونيون ضد مصلحة الدولة العليا" إلى مقاضاة تجار الأسلحة من الشركات الفرنسية، شركة داسو وتومسون وآيروسباسيال. وقد خلصت بعدها المحاكم الباريسية إلى أن هذه الشركات الفرنسية، ببيعها أسلحة إلى دولة تستخدمها لقصف المدنيين قد تجد نفسها يوماً ما مدعوة إلى المحاسبة أمام القضاء.
لم يعد الأمر سراً: فالسيد صدام حسين ما كان له أبداً أن يهاجم جيرانه ولا أن يرتكب جرائمه بواسطة الأسلحة الكيميائية لولا مساعدة الشركات والحكومات الغربية. كانت الغازات القاتلة تأتي من ألمانيا بعد أن تصنعها معامل في فرنسا والولايات المتحدة. وحتى الآن لم تنشر اللائحة الكاملة بهذه الشركات المتواطئة. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 2002 وضعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يدها، تحت جنح الظلام، على تقرير سلّم إلى الأمم المتحدة مؤلف من 000 12 صفحة حول عمليات تسليح السيد صدام حسين. وقد أعادته بعد 48 ساعة ناقصاً منه حوالى مئة صفحة. وبعملية تهريب حكومية، تمكن السيد غاري ميلهولن، الخبير في أسواق التسلح، من استعادة الصفحات الناقصة. وأمكننا الاطلاع عليها. فتبين أنها تكشف عن أن مختبرات باستور قد باعت العراق جراثيم بيولوجية، وأن شركة بروتك الألزاسية قد جهزت معملاً للغاز الحربي في سامراء أو أيضاً أن الشركة الأميركية باكتل، التي تمول الحملات الانتخابية لعائلة بوش قد سلمت العراق مصنعاً كيميائياً. ولا تزال وثائق أخرى تفضح تورط الشركات الغربية تنام طي الأدراج في مقر الأمم المتحدة في نيويورك حيث وثقت ملفات مفتشي الأمم المتحدة في العراق. ويأسف السيد ميلهولن "لأنني بحثت في ذلك مع موظفين في الأمم المتحدة في نيويورك الذين أكدوا لي أن هذه المعلومات يجب أن تبقى سرية".
والسيد صدام حسين سوف يواجه تهمة اجتياح الكويت بشكل وحشي في آب/أغسطس من العام 1990. وبين ليلة وضحاها تحول حليف الأمس إلى أسوأ الطغاة. "نحن في مواجهة هتلر جديد" هذا ما أكده في حينها الرئيس جورج بوش الأب. غير أن العديد من الفاعليات العراقية والأمريكية تتهم الرئيس بوش بأنه لم يتصرف في الوقت المناسب من أجل منع حدوث هذه المأساة.
فبعد حربه على العراق التمس العراق المُنهَك مساعدة جيرانه في إعادة بناء اقتصاده. وقد طلب السيد صدام حسين إلى الكويت تأجيل تسديد ديونه لها، غير أن الإمارة الصغيرة وبدعم من الولايات المتحدة رفضت في موقف مستغرب أي مفاوضات في الموضوع. ومن جهة أخرى فإن الكويت عمدت فجأةً الى زيادة إنتاجها النفطي مما أدى إلى سقوط الأسعار معطلةً بذلك عودة الاقتصاد العراقي إلى النهوض. فرأى السيد صدام حسين أنه ضحية مؤامرة تهدف إلى تدمير بلاده. وبحسب السفير الفرنسي السابق إريك رولو المتخصص في شؤون الشرق الأوسط "أصبح الأمر بالنسبة إلى صدام حسين مسألة حياة أو موت. وحين لم تنفع تهديداته أرسل قواته إلى الحدود الكويتية".
وحين رصدت أقمار التجسس الأمريكية حركة المدرعات العراقية طلب بعض مستشاري الحكومة الأمريكية إلى البيت الأبيض إرسال تحذير واضح وشديد اللهجة إلى الرئيس العراقي [6] . لكن السيد جورج بوش الذي كان يعتبر السيد صدام حسين قبل كل شيء شريكاً تجارياً مهماً اختار أن ينصاع لمستشارين آخرين رأوا في الأمر نوعاً من خديعة. فلم يصدر أي تحذير أميركي. بل العكس.
وقبل ثمانية أيام من اجتياح الكويت استدعى السيد صدام حسين في بغداد السفيرة الأمريكية السيدة أبريل غلاسبي، ليبلغها أنه يعتبر الموقف الأمريكي بمثابة إعلان حرب [7]. فأجابته السيدة غلاسبي أن الولايات المتحدة لن تتخذ "أي موقف في حال النزاع على الحدود بين العراق والكويت". وبعد أن استأذنت السفيرة الديكتاتور أبلغته أنها تغادر في عطلة لها. وبعد يومين كُرِّرَت فحوى تصريحات السيدة غلاسبي علناً في واشنطن على لسان رئيسها مساعد وزير الخارجية جون كيلي. فلدى سؤاله عما ستفعله بلاده إذا ما هاجم العراق الكويت أجاب المسؤول الأمريكي بما يلي: "ليس لدينا معاهدة دفاع مع أي من دول الخليج". وبعد أسابيع ألقى أحد نواب الكونغرس، السيد توم لانتوس، خطاباً بالغ الخطورة والضرر على السياسة الأمريكية حيث قال: "إن الموقف المجامل من صدام حسين والذي تم التعبير عنه على أعلى المستويات في الحكومة الأمريكية هو ما شجعه على دخول الكويت. وفي أي من الأحوال لا يمكننا التملص من هذه المسؤولية".
بعد الاجتياح، أصبح من المسلّم به أن الولايات المتحدة سوف تلجأ إلى القوة. وقد أخبرنا السيد عبد المجيد الرافعي، أحد كبار المسؤولين في حزب البعث، أن السيد صدام حسين قد أبلغ حزبه منذ اليوم الخامس للاجتياح أن الاستعدادات جارية للانسحاب من الكويت. غير أن كل محاولات التفاوض قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، سواء بسبب تكتيكات السيد صدام حسين الخاطئة أو بسبب موقف المسؤولين الأمريكيين الثابت. وبحسب ما لفت إليه السفير الأمريكي السابق في السعودية السيد جيم آكنز: "بمجرد أن بدأ السيد جورج بوش بتحريك قواته أصبح من المستبعد أن يسمح هو ومستشاروه للديكتاتور العراقي بالإفلات. وكان طموحهم آنذاك أن ينتصروا في حرب سريعة وظافرة" [8].
أما في ما يتعلق بالأسباب الحقيقية لهذه الحرب فقد ذكّر بها مؤخّراً السيد جيمس بايكر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك: "إن السياسة التي تقوم على تأمين الوصول بشكل مؤكد إلى احتياطات الطاقة في الخليج الفارسي هي التي اعتمدت إذ بدون ذلك لكان الاقتصاد الأمريكي، أقله في تلك الفترة، قد تأثر بشكل سلبي. وهذا ما كان يعني أن يخسر الناس وظائفهم، وعندما يخسر الناس وظائفهم يتحولون إلى حالة من الاستياء وتخسر أنت ما تلاقيه من دعم سياسي. تلك كانت المشكلة، وهي أحد الأسباب التي من أجلها خضنا حرب الخليج. وحتى وإن انتفض الكثيرون على تصريحاتنا ليقولوا: "عجباً! تمام! أنتم إذن لا تحاربون دفاعاً عن مبادئ، أو لأن صدام حسين قد اعتدى على جار صغير بدون سبب أو لأنه يطور أسلحة دمار شامل". إنما كان هناك سبب آخر خضنا من أجله هذه الحرب، فلو تركنا صدام حسين يسيطر على مصادر الطاقة في الخليج لكان لهذا أثراً سلبياً على اقتصاد الولايات المتحدة. وهذا ما ينطبق أيضاً على الحرب الحالية [على العراق] [9].
في العام 1991 وإثر عملية "عاصفة الصحراء"، سحق صدام حسين عملية تمرد شيعية ذهب ضحيتها، عشرات، بل مئات الألوف من القتلى. وهي الجريمة الأكبر، من ناحية حياة البشر، التي يُتَّهَم بها. وهي الجريمة التي غالباً ما يذكرها السيد جورج دبليو بوش ليذكر بوحشية هذا الديكتاتور. وفي الواقع أن الولايات المتحدة وحلفاءها، من خلال عملية عاصفة الصحراء، كانت متواطئة في هذه المجزرة التي وقعت تحت أنظارهم تماماً.
فالسيد جورج بوش الأب هو الذي كان قد دعا العراقيين للقيام بهذا التمرد وذلك منذ 15 شباط/فبراير عام 1991 حين قال: "على الجيش العراقي والشعب العراقي أن يحدِّدوا مصيرهم بأنفسهم ويجبرون صدام حسين، هذا الديكتاتور، على الانسحاب". وهو، تفادياً لأي التباس، كرر رسالته هذه التي بُثَّت في العراق كله عبر إذاعة "صوت أميركا" والعديد من المحطات الإذاعية السرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ثم أعقب ذلك مناشير رمتها الطائرات الأمريكية. وإذ اعتقد المواطنون الشيعة أن النظام هو على حافة الانهيار بعد هزيمته في الكويت قاموا بانتفاضتهم. وقد امتدت الثورة مثل النار في الهشيم ليلتحق بها جنود من جيش صدام. وفي الوقت نفسه كان الأكراد في الشمال يتمردون بدورهم.
في هذه الأثناء كانت المأساة جارية. فأولاً أصدر الرئيس جورج بوش أوامره بوقف الأعمال القتالية في الكويت مما سمح للعديد من وحدات النخبة العراقية بالنجاة من التدمير. ثم عندما أملى الجنرال نورمان شوارزكوف شروط اتفاق السلام على جنرالات السيد صدام حسين المهزومين، سمح لهم بالاستمرار في استخدام طائرات الهليكوبتر القتالية. وقد زعم الجنرالات في حينها أنهم لا يحتاجونها إلا لنقل المؤن والضباط. أما في الواقع فهم كانوا يستخدمونها لسحق حركة التمرد.
يُتبع
*ميشال ديبرات وباري لاندو
Michel Despratx et Barry Lando
في مقهى في وسط بغداد السابق راح الزبائن الذين سُئِلوا رأيهم في محاكمة الرئيس السابق صدام حسين المرتقبة يتناولون الموضوع بطابعٍ جديٍّ مذكّرين بجرائم الديكتاتور السابق أو بضرورة إجراء هذه المحاكمة. ثم بعد التفوّه ببعض الجمل راح الجميع يبتسمون ويشيحون بأنظارهم وكأنما للقول بأن المحاكمة لن تأتي بما هو جديّ. والكل متأكد من أن الولايات المتحدة تسيطر كلياً على المحكمة التي سيمثُل أمامها الديكتاتور السابق وأنه لن يجرى توجيه الاتهام إلى أي أجنبي أياً تكن الجرائم الشنيعة التي يمكن أن يكون ارتكبها في العراق. ويشدد أحد الأساتذة على أنه " إذا جرت هذه المحاكمة يوماً ما، وهذا ما أشك في حصوله، فإنها لن تطرح أبداً مسألة علاقة صدام حسين بالدول الأجنبية". ويضيف مهندس: "قد يؤدي هذا إلى فضح قضايا كثيرة ليست في مصلحة الغرب".
وإذ استشارته مراجع عليا في وزارة الخارجية، أوضح الخبير القضائي الأمريكي شريف بسيوني الذي لعب دوراً أساسياً في إنشاء هذه المحكمة: "لقد أُعِدَّ كل شيء لكي تشكل محكمة لا يكون قضاتها مستقلين إنما على العكس ممسوكين بقوة. وإذ أقول ممسوكين فإنما أعني أنه يجب على منظمي هذه المحكمة أن يتأكدوا من أن الولايات المتحدة وسائر القوى الكبرى الغربية لن تكون موضع اتهام. وأنظمة هذه المحكمة نفسها وضعت بشكل أن تبقى الولايات المتحدة وسائر الدول كليّاً في منأى عن الاتهامات. وهذا ما يجعل هذه المحاكمة محاكمة ناقصة وغير عادلة. إنه انتقام المنتصر".
وفي الواقع أن منظمي هذه المحاكمة الأمريكيين والعراقيين قد قرروا أن المحكمة الخاصة التي سوف تنظر في جرائم السيد صدام حسين لن توجّه تهمة التواطؤ إلى أي أجنبي، ما يعني إلى أي أمريكي أو بريطاني أو فرنسي. والحال أن تاريخ السنوات الأربعين الأخيرة زاخرٌ بالأمثلة على أن هناك من ليسوا من العراقيين، ومنهم خمسة رؤساء أمريكيين وعلى الأقل ثلاثة رؤساء فرنسيين وعدد من رؤساء الوزراء البريطانيين إضافةً إلى مجموعة من المستثمرين الغربيين، كانوا من المتواطئين، وأحياناً من المشاركين في الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي. ففي ظل رئاسة جون كينيدي كانت واشنطن بدأت دعم المجازر في العراق. ففي العام 1963 قررت الولايات المتحدة التصرف بعد أن شعرت بالقلق لرؤية الرئيس عبد الكريم قاسم يتقرب من موسكو ويهدد بتأميم قطاع النفط. وفي 8 شباط/فبراير عام 1963 دعمت الانقلاب الذي نفذه حزب سياسي معادٍ بقوة للشيوعية، هو حزب البعث. ويؤكد السيد جيمس أكنس، المستشار السياسي في سفارة الولايات المتحدة في بغداد إثر حدوث الانقلاب: "لقد قدمنا للبعثيين المال، الكثير من المال إضافة إلى التجهيزات. وهذا ما لم يتم الإعلان عنه لكن كثيرين منا كانوا يعرفونه".
وقد أقدم البعثيون، بعد أن أعدموا الرئيس قاسم، على قتل آلاف الشيوعيين ومناصري اليسار من أطباء وقضاة وعمال وتعذيبهم. ويقر السيد عبد الله هاتف، أحد منفذي هذه المجازر وهو اليوم مدير مدرسة ابتدائية في بغداد بـ "أننا لم نتلقَّ سوى أمرٍ واحد: اقضوا على الشيوعيين!" وقد كان صدام حسين الشاب متحمساً جداً. فكان يهتم بتعذيب العمّال بأن يُنفَخَ الرجال بواسطة الماء، وتكسّر عظامهم أو تمرر فيهم الكهرباء". هذا ما نفته واشنطن على الدوام غير أن العديد من قادة الانقلاب كشفوا أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعبت دوراً ناشطاً في هذه المجزرة وخصوصاً بتقديمها لوائحاً بأسماء الشيوعيين المطلوب اعتقالهم. وفي العام 2003، وفي مقابلة مع إحدى الوكالات الصحافية الكبيرة، أجاب أحد المسؤولين الدبلوماسيين السابقين، بعد أن طلب عدم ذكر اسمه: "لقد كنّا صراحةً سعداء بالتخلص من الشيوعيين! فهل تعتقدون أنهم يستحقون قضاءً أكثر عدلاً؟ أنتم تمزحون. لقد كانت المسألة جدية جداً!" [1].
ويؤكد تقرير لم ينشر حتى الآن حول اجتماع عقد في بغداد في 9 حزيران/يونيو عام 1963 [2] بين الأمريكيين والبعثيين على الرغبة "المشتركة للوقوف في وجه المد الشيوعي في المنطقة". والعدو المستهدف لم يكن محصوراً بالشيوعيين بل شمل الأكراد الذين كانوا يقاومون الحكم البعثي في شمال البلاد. وفي بغداد أكد السيد صبحي عبد الحميد [3] الذي كان يتولى في حينها قيادة عمليات الجيش العراقي ضد الأكراد أنه أجرى شخصياً مفاوضات مع الملحق الأمريكي حول تسلم خمسة آلاف قنبلة من أجل سحق المقاومة. "ثم منحنا الأمريكيون وبدون مقابل ألف قنبلة نابالم لنقصف بها القرى الكردية". وبحسب الأكراد الذي عايشوا عمليات القصف هذه، فقد أحرقت قنابل النابالم قطعان مواشٍ وقرى بأكملها. لكنهم كانوا يعتقدون في تلك الحقبة أن قنابل النابالم هذه قدمها السوفيات.
* في محاكمة السيد صدام حسين، سوف توجه التهمة إليه بأنه خاض في أيلول/سبتمبر عام 1980 حرباً على إيران تسببت بسقوط مليون قتيلٍ من الرجال والنساء. غير أن الكثير من الشهود يؤكدون أن واشنطن هي التي شجّعته على شن هذه الحرب. فقد كان الغرب هو الرابح الأكبر من رؤيته يتصدى للثورة الإسلامية البالغة الخطورة بقيادة آية الله الخميني. وهناك وثيقة حكومية أمريكية سرية جداً تعود إلى العام 1984 تكشف أن: "الرئيس كارتر قد منح صدام حسين الضوء الأخضر لكي يفجر هذه الحرب مع إيران" . لكن هل أن الولايات المتحدة، بعد إعطائها الضوء الأخضر، قد شاركت أيضاً في وضع مخطط المعركة ضد إيران؟ هذا ما يؤكده الرئيس الإيراني آنذاك، السيد الحسن بني صدر. فبحسب ما يرويه فإن مخابراته السرية قد اشترت نسخة عن هذا المخطط تقول مصادره أن عراقيين وأمريكيين كتبوه في أحد الفنادق الباريسية. "وما يجعلني أؤكد أنه حقيقي هو أن الحرب العراقية قد جرت بالضبط بحسب مخطط المعركة هذا! ولأننا حصلنا على هذا المخطط أمكننا التصدي للهجمات العراقية" [4].
ولقد وقفت واشنطن، رسمياً، على الحياد في الحرب الإيرانية - العراقية. إلا أن لجنة تحقيق أمريكية كشفت أن البيت الأبيض ووكالة المخابرات المركزية قد سلمت سراً صدام حسين كل أنواع الأسلحة ومن ضمنها القنابل الانشطارية. كما أن معلومات الأقمار الصناعية قد ساعدت في استهداف القوات الإيرانية بشكل أفضل، في الوقت الذي كانت واشنطن تعلم فيه أن القوات العراقية تستخدم الأسلحة الكيميائية. وبحسب السيد ريك فرانكونا، أحد ضباط الاستخبارات العسكرية الأمريكية الذين حملوا إلى بغداد، في العام 1988، لوائح بالأهداف الإيرانية المطلوب قصفها، أن هذه المعلومات هي التي أمنت النصر النهائي للعراق على إيران [5].
ومن الجرائم التي سيستجوب عليها السيد صدام حسين أمام المحكمة أيضاً مسألة استخدام الغازات السامة، في العام 1988، الذي أدى إلى مقتل خمسة آلاف مدني في بلدة حلبجة الكردية. بعد أن اتهمتهم بغداد بالتعاون مع الإيرانيين. وفي تلك الحقبة بذلت الولايات المتحدة وفرنسا كل الجهود كي تمنع إدانة السيد صدام حسين بهذه الجريمة. وليس فقط أن الرئيس رونالد ريغن وضع فيتو على قانون يقضي بحظر التجارة مع العراق، بل أن واشنطن أرسلت برقية إلى مختلف سفاراتها في العالم تطلب منها فيها التأكيد على أن أكراد حلبجة قتلوا بالغاز على يد ... الايرانيين.
كما أن فرنسا "نسيت" إدانة السيد صدام حسين بهذه الجريمة. فغداة هذه المأساة أصدرت حكومة ميشال روكار بياناً تستنكر فيه هذه الاعتداءات بالأسلحة الكيميائية "من أي جهةٍ أتت"، إنما دون أن تأتي أبداً على ذكر الرئيس العراقي. وهذا ما أوضح أسبابه السيد رولان دوما، وزير الخارجية آنذاك: "صحيح أن الغرب قد غض الطرف قليلاً، ذاك أننا رأينا في العراق دولة نحتاجها من أجل إقامة التوازن في المنطقة". أما السيد جان بيار شوفانمان، وزير الدفاع آنذاك فقد صرح لنا قائلاً: "إذا أردنا الحكم في قضية حلبجة بالإجمال، يفترض بنا العودة إلى الأهمية الحاسمة لهذه المنطقة في تموين العالم بالنفط، فمن يمسك بهذه المنطقة يتحكم بالتوازن المالي في العالم. وبالتالي ليس لدينا أبداً الخيار بين الخير والشر، بل لنا الخيار بين ما هو مرعب وما هو فظيع". وبمعزل عن حاجتها إلى البترول كانت فرنسا أيضاً المصدّر الأول للمعدات العسكرية إلى العراق. في باريس أبدى السيد بيار ماريون، الذي كان يتولى الإدارة العامة للأمن الخارجي(DGSE) في العام 1981، قلقه من دعم فرنسا فرنسوا ميتران للسيد صدام حسين. وهو يؤكد اليوم أن هذا الدعم كان يحض عليه تجار الأسلحة الذين كانت لهم كل المصلحة في استمرار الحرب العراقية الإيرانية. ويقول لنا السيد ماريون أن "شركة داسو كانت الشركة بائعة الأسلحة الأكثر استفادةً من هذه الحرب وأكثر من دفع في اتجاهها. وقد أمسكت بوسائل ضغط فعالة إلى أقصى حد وقوية على جميع الزعماء الفرنسيين". وفي العام 1992 عمدت جمعية أوروبية صغيرة تحمل أسم "قانونيون ضد مصلحة الدولة العليا" إلى مقاضاة تجار الأسلحة من الشركات الفرنسية، شركة داسو وتومسون وآيروسباسيال. وقد خلصت بعدها المحاكم الباريسية إلى أن هذه الشركات الفرنسية، ببيعها أسلحة إلى دولة تستخدمها لقصف المدنيين قد تجد نفسها يوماً ما مدعوة إلى المحاسبة أمام القضاء.
لم يعد الأمر سراً: فالسيد صدام حسين ما كان له أبداً أن يهاجم جيرانه ولا أن يرتكب جرائمه بواسطة الأسلحة الكيميائية لولا مساعدة الشركات والحكومات الغربية. كانت الغازات القاتلة تأتي من ألمانيا بعد أن تصنعها معامل في فرنسا والولايات المتحدة. وحتى الآن لم تنشر اللائحة الكاملة بهذه الشركات المتواطئة. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 2002 وضعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يدها، تحت جنح الظلام، على تقرير سلّم إلى الأمم المتحدة مؤلف من 000 12 صفحة حول عمليات تسليح السيد صدام حسين. وقد أعادته بعد 48 ساعة ناقصاً منه حوالى مئة صفحة. وبعملية تهريب حكومية، تمكن السيد غاري ميلهولن، الخبير في أسواق التسلح، من استعادة الصفحات الناقصة. وأمكننا الاطلاع عليها. فتبين أنها تكشف عن أن مختبرات باستور قد باعت العراق جراثيم بيولوجية، وأن شركة بروتك الألزاسية قد جهزت معملاً للغاز الحربي في سامراء أو أيضاً أن الشركة الأميركية باكتل، التي تمول الحملات الانتخابية لعائلة بوش قد سلمت العراق مصنعاً كيميائياً. ولا تزال وثائق أخرى تفضح تورط الشركات الغربية تنام طي الأدراج في مقر الأمم المتحدة في نيويورك حيث وثقت ملفات مفتشي الأمم المتحدة في العراق. ويأسف السيد ميلهولن "لأنني بحثت في ذلك مع موظفين في الأمم المتحدة في نيويورك الذين أكدوا لي أن هذه المعلومات يجب أن تبقى سرية".
والسيد صدام حسين سوف يواجه تهمة اجتياح الكويت بشكل وحشي في آب/أغسطس من العام 1990. وبين ليلة وضحاها تحول حليف الأمس إلى أسوأ الطغاة. "نحن في مواجهة هتلر جديد" هذا ما أكده في حينها الرئيس جورج بوش الأب. غير أن العديد من الفاعليات العراقية والأمريكية تتهم الرئيس بوش بأنه لم يتصرف في الوقت المناسب من أجل منع حدوث هذه المأساة.
فبعد حربه على العراق التمس العراق المُنهَك مساعدة جيرانه في إعادة بناء اقتصاده. وقد طلب السيد صدام حسين إلى الكويت تأجيل تسديد ديونه لها، غير أن الإمارة الصغيرة وبدعم من الولايات المتحدة رفضت في موقف مستغرب أي مفاوضات في الموضوع. ومن جهة أخرى فإن الكويت عمدت فجأةً الى زيادة إنتاجها النفطي مما أدى إلى سقوط الأسعار معطلةً بذلك عودة الاقتصاد العراقي إلى النهوض. فرأى السيد صدام حسين أنه ضحية مؤامرة تهدف إلى تدمير بلاده. وبحسب السفير الفرنسي السابق إريك رولو المتخصص في شؤون الشرق الأوسط "أصبح الأمر بالنسبة إلى صدام حسين مسألة حياة أو موت. وحين لم تنفع تهديداته أرسل قواته إلى الحدود الكويتية".
وحين رصدت أقمار التجسس الأمريكية حركة المدرعات العراقية طلب بعض مستشاري الحكومة الأمريكية إلى البيت الأبيض إرسال تحذير واضح وشديد اللهجة إلى الرئيس العراقي [6] . لكن السيد جورج بوش الذي كان يعتبر السيد صدام حسين قبل كل شيء شريكاً تجارياً مهماً اختار أن ينصاع لمستشارين آخرين رأوا في الأمر نوعاً من خديعة. فلم يصدر أي تحذير أميركي. بل العكس.
وقبل ثمانية أيام من اجتياح الكويت استدعى السيد صدام حسين في بغداد السفيرة الأمريكية السيدة أبريل غلاسبي، ليبلغها أنه يعتبر الموقف الأمريكي بمثابة إعلان حرب [7]. فأجابته السيدة غلاسبي أن الولايات المتحدة لن تتخذ "أي موقف في حال النزاع على الحدود بين العراق والكويت". وبعد أن استأذنت السفيرة الديكتاتور أبلغته أنها تغادر في عطلة لها. وبعد يومين كُرِّرَت فحوى تصريحات السيدة غلاسبي علناً في واشنطن على لسان رئيسها مساعد وزير الخارجية جون كيلي. فلدى سؤاله عما ستفعله بلاده إذا ما هاجم العراق الكويت أجاب المسؤول الأمريكي بما يلي: "ليس لدينا معاهدة دفاع مع أي من دول الخليج". وبعد أسابيع ألقى أحد نواب الكونغرس، السيد توم لانتوس، خطاباً بالغ الخطورة والضرر على السياسة الأمريكية حيث قال: "إن الموقف المجامل من صدام حسين والذي تم التعبير عنه على أعلى المستويات في الحكومة الأمريكية هو ما شجعه على دخول الكويت. وفي أي من الأحوال لا يمكننا التملص من هذه المسؤولية".
بعد الاجتياح، أصبح من المسلّم به أن الولايات المتحدة سوف تلجأ إلى القوة. وقد أخبرنا السيد عبد المجيد الرافعي، أحد كبار المسؤولين في حزب البعث، أن السيد صدام حسين قد أبلغ حزبه منذ اليوم الخامس للاجتياح أن الاستعدادات جارية للانسحاب من الكويت. غير أن كل محاولات التفاوض قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، سواء بسبب تكتيكات السيد صدام حسين الخاطئة أو بسبب موقف المسؤولين الأمريكيين الثابت. وبحسب ما لفت إليه السفير الأمريكي السابق في السعودية السيد جيم آكنز: "بمجرد أن بدأ السيد جورج بوش بتحريك قواته أصبح من المستبعد أن يسمح هو ومستشاروه للديكتاتور العراقي بالإفلات. وكان طموحهم آنذاك أن ينتصروا في حرب سريعة وظافرة" [8].
أما في ما يتعلق بالأسباب الحقيقية لهذه الحرب فقد ذكّر بها مؤخّراً السيد جيمس بايكر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك: "إن السياسة التي تقوم على تأمين الوصول بشكل مؤكد إلى احتياطات الطاقة في الخليج الفارسي هي التي اعتمدت إذ بدون ذلك لكان الاقتصاد الأمريكي، أقله في تلك الفترة، قد تأثر بشكل سلبي. وهذا ما كان يعني أن يخسر الناس وظائفهم، وعندما يخسر الناس وظائفهم يتحولون إلى حالة من الاستياء وتخسر أنت ما تلاقيه من دعم سياسي. تلك كانت المشكلة، وهي أحد الأسباب التي من أجلها خضنا حرب الخليج. وحتى وإن انتفض الكثيرون على تصريحاتنا ليقولوا: "عجباً! تمام! أنتم إذن لا تحاربون دفاعاً عن مبادئ، أو لأن صدام حسين قد اعتدى على جار صغير بدون سبب أو لأنه يطور أسلحة دمار شامل". إنما كان هناك سبب آخر خضنا من أجله هذه الحرب، فلو تركنا صدام حسين يسيطر على مصادر الطاقة في الخليج لكان لهذا أثراً سلبياً على اقتصاد الولايات المتحدة. وهذا ما ينطبق أيضاً على الحرب الحالية [على العراق] [9].
في العام 1991 وإثر عملية "عاصفة الصحراء"، سحق صدام حسين عملية تمرد شيعية ذهب ضحيتها، عشرات، بل مئات الألوف من القتلى. وهي الجريمة الأكبر، من ناحية حياة البشر، التي يُتَّهَم بها. وهي الجريمة التي غالباً ما يذكرها السيد جورج دبليو بوش ليذكر بوحشية هذا الديكتاتور. وفي الواقع أن الولايات المتحدة وحلفاءها، من خلال عملية عاصفة الصحراء، كانت متواطئة في هذه المجزرة التي وقعت تحت أنظارهم تماماً.
فالسيد جورج بوش الأب هو الذي كان قد دعا العراقيين للقيام بهذا التمرد وذلك منذ 15 شباط/فبراير عام 1991 حين قال: "على الجيش العراقي والشعب العراقي أن يحدِّدوا مصيرهم بأنفسهم ويجبرون صدام حسين، هذا الديكتاتور، على الانسحاب". وهو، تفادياً لأي التباس، كرر رسالته هذه التي بُثَّت في العراق كله عبر إذاعة "صوت أميركا" والعديد من المحطات الإذاعية السرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ثم أعقب ذلك مناشير رمتها الطائرات الأمريكية. وإذ اعتقد المواطنون الشيعة أن النظام هو على حافة الانهيار بعد هزيمته في الكويت قاموا بانتفاضتهم. وقد امتدت الثورة مثل النار في الهشيم ليلتحق بها جنود من جيش صدام. وفي الوقت نفسه كان الأكراد في الشمال يتمردون بدورهم.
في هذه الأثناء كانت المأساة جارية. فأولاً أصدر الرئيس جورج بوش أوامره بوقف الأعمال القتالية في الكويت مما سمح للعديد من وحدات النخبة العراقية بالنجاة من التدمير. ثم عندما أملى الجنرال نورمان شوارزكوف شروط اتفاق السلام على جنرالات السيد صدام حسين المهزومين، سمح لهم بالاستمرار في استخدام طائرات الهليكوبتر القتالية. وقد زعم الجنرالات في حينها أنهم لا يحتاجونها إلا لنقل المؤن والضباط. أما في الواقع فهم كانوا يستخدمونها لسحق حركة التمرد.
يُتبع
Comment