قبائل المجتمع المدني
تركي فيصل الرشيد
تعالت الأصوات بين فينة وأخرى مطالبة بالقضاء على العصبيات القبلية نحو تحقيق مفهوم المجتمع المدني حتى وصل الأمر إلى الإعلام، فأوقفت إحدى القنوات ذات التمويل السعودي مسلسلين وتدخل رئيس دولة الإمارات شخصياً لوقف مسلسل ثالث بهدف منع إثارة النزاعات القبلية، على الرغم من أن القبيلة ليست كلها شراً، وخير مثال على ذلك أن حلف الفضول الذي حضره النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، والذي يعد من أعظم اتفاقيات الدفاع عن المظلوم ورد حقه كان بإجماع جميع القبائل، كما أنه توجد قبائل عربية موزعة في بلدان عدة عربية يسودها التسامح الديني، فينتمي إليها السني والشيعي والمسيحي ولا يضيرهم ذلك.
ما سبق يطرح تساؤلاً مؤداه: لمَ لا ننمي قبائل المجتمع المدني (النقابات المهنية والمؤسسات المدنية) وفي الوقت نفسه نحافظ على العادات الحميدة في القبائل، فدور القبائل - شئنا أم أبينا - لا يمكن تجاهله أو الانتقاص منه، خاصة أن الإدارة العربية نفسها تعيش حالة من الازدواجية بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي، لأن المحرك الأساسي لها هو النظم العصبية على اختلافها، مثل القبيلة والعشيرة والعائلة والطائفية وغيرها، بل إن الملاحظ تاريخياً أن الإدارة العربية ليست وحدها التي تسير بهذا الشكل ولكن جميع مؤسسات المجتمع، لذا نحن في حاجة إلى دراسة واقعنا. أضف إلى ذلك أن الدولة العربية الحديثة اتكأت على القبيلة في مراحل عدة من عمرها القصير، إما لاستدعاء شرعيات منقوصة أو للاستقواء على خصومها أو لتوسيع نطاقات سلطاتها، مما أدى إلى إنعاش القبيلة وتكريس حضورها. ولم يكن هذا على صعيد العرب فقط، فحتى الدخلاء والمستعمرون توجهوا إلى القبائل بصيغ مختلفة، بهدف إخضاع المناطق لسيطرتهم، ومثال ذلك الأتراك ثم البريطانيون خلال حكمهما للعراق.
فمن يظن أن القبيلة العربية قد انتهت وقامت على أنقاضها أنظمة دول حديثة تعتمد الدساتير ومفاهيم المواطنة والولاء للدولة عوضاً عن الولاء للقبيلة - خصوصاً أن عدد سكان الريف والصحارى مقارنة بسكان المدن انخفض بنسبة عالية جداً - لا يلبث أن يرى القبيلة تعاود الظهور مرة ثانية بشكل أقوى وأشد. فمن رحم القبيلة نشأت وتطورت الدولة، وبين تجاذبات القبائل وادعاء الشرعية والتنافس على اكتساب سلطات دينية، كانت الحروب والصراعات تحسم السيطرة لهذه القبيلة أو تلك لفترة أو أخرى. وكانت فدراليات القبائل هي التي تسيطر على الأراضي الشاسعة التي يعيش فيها البدو الرحل مقابل إمارات صغيرة تسيطر على المناطق التي يعيش فيها البدو المستقرون حول الواحات أو الحضر.
إن الارتداد إلى صيغ العصبيات الضيقة والقومية والإثنية والدينية في زمن العولمة وتفتت الولاءات الصغيرة يعود إلى تفاقم ضغوطات الحداثة على التشكيلات الاجتماعية التي فشلت في إنتاج بدائل مطمئنة للولاء القبلي. وهنا تجدر الإشارة إلى وجوب تقليل الفزع من القبيلة، فالقبائل قديماً كانت تتناحر وتتقاتل للحصول على الموارد الشحيحة وتتكاتف لحفظ أمنها وحماية مكاسبها وتلك أصبحت الآن مسؤولية الدولة.
لذا فالتحول من القبيلة إلى المجتمع المدني تلعب فيه القبيلة دورًا هامًّا وبارزًا كعنصر محدد من عناصر التجربة الديموقراطية، باعتبار مفهوم القبيلة في صورته الحياتية أساس التجربة السياسية لدول تلك المنطقة، وعلى رغم وجود العديد من الآراء التي تشير لانحسار هذا الدور لصالح الدولة القومية الحديثة فإن دورها ما زال مؤثرًا على صعيد قضايا التنمية السياسية والبناء الاجتماعي، وهو ما يصب في النهاية في تجربة المشاركة السياسية وآليات التنمية السياسية.
كما شهدت النظم السياسية الخليجية في الآونة الأخيرة جملة من التطورات السياسية الهامة التي تصب في اتجاه تدعيم قضايا المشاركة السياسية وتوسيع تجربة الانفتاح الديمقراطي، وذلك عبر العديد من الآليات والأدوات، لعل أبرزها تجربة الانتخابات وإفساح المجال أمام المشاركة السياسية.
وهذا الحديث عن دور القبيلة التقليدي في المجتمعات الخليجية يقودنا إلى دراسة التحولات المجتمعية الخليجية الحديثة، وخاصة التحول لمؤسسات المجتمع المدني، والتي تعني إنشاء وتطوير مؤسسات تطوعية بالإرادة الحرة لأصحابها باستقلال عن المؤسسات الحكومية، إذ مرت هذه المؤسسات بمراحل عدة أهمها:
- مرحلة تبلور الدولة بالمعنى الحديث، ومن ثم بدأت مطالب وتشكيلات مؤسسات المجتمع المدني تنحو تجاه الجوانب السياسية وقضايا المشاركة الشعبية.
- مرحلة الطفرة النفطية، حيث بدأت عوائد النفط تؤتي ثمارها، وبدأت خطط التنمية الاقتصادية تتبلور بشكل واضح، كما أن مؤسسات الدولة بدأت في الترسيخ، وبدأت تلك الدول تتوسع في الأخذ بنظام مجالس الشورى سواء المنتخبة أم المعينة.
ووطّد لذلك التغير الكبير في دول الخليج، حيث ارتفعت معدلات التعليم في دول التعاون وانخفضت نسبة الأمية، إضافة إلى المستوى الاقتصادي المرتفع الذي تشهده غالبية هذه الدول، وصبَّ كل ذلك بالنهاية في تنامي درجات الوعي السياسي والثقافي وخلق شريحة عريضة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام.
لقد تنامى دور مؤسسات المجتمع المدني في دول الخليج وتوسعت الدول في هذه التنظيمات، مما يساعد في إثراء الممارسة السياسية. وقد قدرت إحدى الدراسات عدد مؤسسات المجتمع المدني الخليجية في الدول الست بحوالي 2000 مؤسسة خاصة مع انتشار ثقافة الإنترنت.
أخيراً، لقد أصبح سكان السعودية سكان مدن وقليل منهم بادية، وفي الانتخابات المتعددة تحصَّل القبائليون في انتخابات مجلس الأمة الكويتي على 52 في المئة من مقاعد البرلمان الكويتي، موزعة بنسب متفاوتة بين القبائليين ذاتهم. وحيث إن تجربتي عمان والأردن تؤكدان على نسبة متقاربة للكويت فنحن بحاجة إلى حوار عائلي وقبلي يجمع أطياف المجتمع كافة، مما سيسهم بمرور الوقت في تدني مسألة التعنصر للقبيلة. وطالما أن نصف مجتمعنا من القبائل فيجب أن نجد الطرق السليمة لإدخال القبائل في التغيرات المدنية.
الخلاصة
على دول الخليج أن تخطو خطوات عملية لتطوير المجتمع المدني وتفعيل مؤسساته من النقابات المهنية بتشريعات جديدة، حيث إنها ووفق الأنظمة الحالية تولد ميتة، وذلك لطريقة تكوينها وخضوعها لنظام الجامعات وإدارتها من موظفين غالباً حكوميين، والأفضل أن تمنحهم الدولة منحة سنوية ويكون أعضاء مجلس إدارتها كلهم منتخبين، وليس شرطاً أن يكون الرئيس موظفاً حكومياً، كما أتمنى لو أن ظهور اسم الفخذ والقبيلة يصبح اختيارياً وليس جبرياً على المواطنين ("ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " الآية الخامسة من سورة الأحزاب)، فالانتماء لا يكفي أن يكون معطى كهوية بالميلاد، وإنما بدافع الإنسان القوي لبناء مكانته في المجتمع والقيام بدور ليس فقط على صعيد المعاش اليومي، وإنما على صعيد الشأن العام، وبذلك تتجذر هويته ويمتلك كيانه من خلال الإسهام في بناء مجاله الحيوي "الوطن".
كاتب سعودي صحيفة الوطن السعودية
الأحد 26 شوال 1429هـ الموافق 26 أكتوبر 2008م العدد (2949) السنة التاسعة
تركي فيصل الرشيد
تعالت الأصوات بين فينة وأخرى مطالبة بالقضاء على العصبيات القبلية نحو تحقيق مفهوم المجتمع المدني حتى وصل الأمر إلى الإعلام، فأوقفت إحدى القنوات ذات التمويل السعودي مسلسلين وتدخل رئيس دولة الإمارات شخصياً لوقف مسلسل ثالث بهدف منع إثارة النزاعات القبلية، على الرغم من أن القبيلة ليست كلها شراً، وخير مثال على ذلك أن حلف الفضول الذي حضره النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، والذي يعد من أعظم اتفاقيات الدفاع عن المظلوم ورد حقه كان بإجماع جميع القبائل، كما أنه توجد قبائل عربية موزعة في بلدان عدة عربية يسودها التسامح الديني، فينتمي إليها السني والشيعي والمسيحي ولا يضيرهم ذلك.
ما سبق يطرح تساؤلاً مؤداه: لمَ لا ننمي قبائل المجتمع المدني (النقابات المهنية والمؤسسات المدنية) وفي الوقت نفسه نحافظ على العادات الحميدة في القبائل، فدور القبائل - شئنا أم أبينا - لا يمكن تجاهله أو الانتقاص منه، خاصة أن الإدارة العربية نفسها تعيش حالة من الازدواجية بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي، لأن المحرك الأساسي لها هو النظم العصبية على اختلافها، مثل القبيلة والعشيرة والعائلة والطائفية وغيرها، بل إن الملاحظ تاريخياً أن الإدارة العربية ليست وحدها التي تسير بهذا الشكل ولكن جميع مؤسسات المجتمع، لذا نحن في حاجة إلى دراسة واقعنا. أضف إلى ذلك أن الدولة العربية الحديثة اتكأت على القبيلة في مراحل عدة من عمرها القصير، إما لاستدعاء شرعيات منقوصة أو للاستقواء على خصومها أو لتوسيع نطاقات سلطاتها، مما أدى إلى إنعاش القبيلة وتكريس حضورها. ولم يكن هذا على صعيد العرب فقط، فحتى الدخلاء والمستعمرون توجهوا إلى القبائل بصيغ مختلفة، بهدف إخضاع المناطق لسيطرتهم، ومثال ذلك الأتراك ثم البريطانيون خلال حكمهما للعراق.
فمن يظن أن القبيلة العربية قد انتهت وقامت على أنقاضها أنظمة دول حديثة تعتمد الدساتير ومفاهيم المواطنة والولاء للدولة عوضاً عن الولاء للقبيلة - خصوصاً أن عدد سكان الريف والصحارى مقارنة بسكان المدن انخفض بنسبة عالية جداً - لا يلبث أن يرى القبيلة تعاود الظهور مرة ثانية بشكل أقوى وأشد. فمن رحم القبيلة نشأت وتطورت الدولة، وبين تجاذبات القبائل وادعاء الشرعية والتنافس على اكتساب سلطات دينية، كانت الحروب والصراعات تحسم السيطرة لهذه القبيلة أو تلك لفترة أو أخرى. وكانت فدراليات القبائل هي التي تسيطر على الأراضي الشاسعة التي يعيش فيها البدو الرحل مقابل إمارات صغيرة تسيطر على المناطق التي يعيش فيها البدو المستقرون حول الواحات أو الحضر.
إن الارتداد إلى صيغ العصبيات الضيقة والقومية والإثنية والدينية في زمن العولمة وتفتت الولاءات الصغيرة يعود إلى تفاقم ضغوطات الحداثة على التشكيلات الاجتماعية التي فشلت في إنتاج بدائل مطمئنة للولاء القبلي. وهنا تجدر الإشارة إلى وجوب تقليل الفزع من القبيلة، فالقبائل قديماً كانت تتناحر وتتقاتل للحصول على الموارد الشحيحة وتتكاتف لحفظ أمنها وحماية مكاسبها وتلك أصبحت الآن مسؤولية الدولة.
لذا فالتحول من القبيلة إلى المجتمع المدني تلعب فيه القبيلة دورًا هامًّا وبارزًا كعنصر محدد من عناصر التجربة الديموقراطية، باعتبار مفهوم القبيلة في صورته الحياتية أساس التجربة السياسية لدول تلك المنطقة، وعلى رغم وجود العديد من الآراء التي تشير لانحسار هذا الدور لصالح الدولة القومية الحديثة فإن دورها ما زال مؤثرًا على صعيد قضايا التنمية السياسية والبناء الاجتماعي، وهو ما يصب في النهاية في تجربة المشاركة السياسية وآليات التنمية السياسية.
كما شهدت النظم السياسية الخليجية في الآونة الأخيرة جملة من التطورات السياسية الهامة التي تصب في اتجاه تدعيم قضايا المشاركة السياسية وتوسيع تجربة الانفتاح الديمقراطي، وذلك عبر العديد من الآليات والأدوات، لعل أبرزها تجربة الانتخابات وإفساح المجال أمام المشاركة السياسية.
وهذا الحديث عن دور القبيلة التقليدي في المجتمعات الخليجية يقودنا إلى دراسة التحولات المجتمعية الخليجية الحديثة، وخاصة التحول لمؤسسات المجتمع المدني، والتي تعني إنشاء وتطوير مؤسسات تطوعية بالإرادة الحرة لأصحابها باستقلال عن المؤسسات الحكومية، إذ مرت هذه المؤسسات بمراحل عدة أهمها:
- مرحلة تبلور الدولة بالمعنى الحديث، ومن ثم بدأت مطالب وتشكيلات مؤسسات المجتمع المدني تنحو تجاه الجوانب السياسية وقضايا المشاركة الشعبية.
- مرحلة الطفرة النفطية، حيث بدأت عوائد النفط تؤتي ثمارها، وبدأت خطط التنمية الاقتصادية تتبلور بشكل واضح، كما أن مؤسسات الدولة بدأت في الترسيخ، وبدأت تلك الدول تتوسع في الأخذ بنظام مجالس الشورى سواء المنتخبة أم المعينة.
ووطّد لذلك التغير الكبير في دول الخليج، حيث ارتفعت معدلات التعليم في دول التعاون وانخفضت نسبة الأمية، إضافة إلى المستوى الاقتصادي المرتفع الذي تشهده غالبية هذه الدول، وصبَّ كل ذلك بالنهاية في تنامي درجات الوعي السياسي والثقافي وخلق شريحة عريضة من المثقفين والمهتمين بالشأن العام.
لقد تنامى دور مؤسسات المجتمع المدني في دول الخليج وتوسعت الدول في هذه التنظيمات، مما يساعد في إثراء الممارسة السياسية. وقد قدرت إحدى الدراسات عدد مؤسسات المجتمع المدني الخليجية في الدول الست بحوالي 2000 مؤسسة خاصة مع انتشار ثقافة الإنترنت.
أخيراً، لقد أصبح سكان السعودية سكان مدن وقليل منهم بادية، وفي الانتخابات المتعددة تحصَّل القبائليون في انتخابات مجلس الأمة الكويتي على 52 في المئة من مقاعد البرلمان الكويتي، موزعة بنسب متفاوتة بين القبائليين ذاتهم. وحيث إن تجربتي عمان والأردن تؤكدان على نسبة متقاربة للكويت فنحن بحاجة إلى حوار عائلي وقبلي يجمع أطياف المجتمع كافة، مما سيسهم بمرور الوقت في تدني مسألة التعنصر للقبيلة. وطالما أن نصف مجتمعنا من القبائل فيجب أن نجد الطرق السليمة لإدخال القبائل في التغيرات المدنية.
الخلاصة
على دول الخليج أن تخطو خطوات عملية لتطوير المجتمع المدني وتفعيل مؤسساته من النقابات المهنية بتشريعات جديدة، حيث إنها ووفق الأنظمة الحالية تولد ميتة، وذلك لطريقة تكوينها وخضوعها لنظام الجامعات وإدارتها من موظفين غالباً حكوميين، والأفضل أن تمنحهم الدولة منحة سنوية ويكون أعضاء مجلس إدارتها كلهم منتخبين، وليس شرطاً أن يكون الرئيس موظفاً حكومياً، كما أتمنى لو أن ظهور اسم الفخذ والقبيلة يصبح اختيارياً وليس جبرياً على المواطنين ("ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " الآية الخامسة من سورة الأحزاب)، فالانتماء لا يكفي أن يكون معطى كهوية بالميلاد، وإنما بدافع الإنسان القوي لبناء مكانته في المجتمع والقيام بدور ليس فقط على صعيد المعاش اليومي، وإنما على صعيد الشأن العام، وبذلك تتجذر هويته ويمتلك كيانه من خلال الإسهام في بناء مجاله الحيوي "الوطن".
كاتب سعودي صحيفة الوطن السعودية
الأحد 26 شوال 1429هـ الموافق 26 أكتوبر 2008م العدد (2949) السنة التاسعة
تعليق