لا بديل عن الإصلاح الاقتصادي لشفاء العالم العربي
فاينانشال تايمز
هنري عزام
تعتبر الإصلاحات الاقتصادية في مثل أهمية التغييرات الدستورية والسياسية، لكن الغضب الشعبي في العالم العربي بسبب الفساد والمعدلات العالية من البطالة لم يُترجَم بعد إلى تغيرات ذات صدقية في السياسات الاقتصادية. وإذا ظلت آفاق التغير الاقتصادي الجوهري وتحسين مستويات المعيشة قاتمة، فسيكون هناك خطر كبير بقيام مزيد من الاحتجاجات في الشهور المقبلة. يجب علينا أن نتوقع حدوث مشاعر اللبس وعدم الاستقرار أثناء الفترات الانتقالية بعد الثورات، وستسوء الأوضاع الاقتصادية قبل أن تتحسن. إن وضع مصر وتونس اليوم يشبه وضع إندونيسيا عام 1998، حين أزيل نظام سوهارتو بفعل انتفاضة شعبية بعد أن حكم البلاد لمدة 31 سنة. وخلال الشهور الـ 18 التالية عانت إندونيسيا من عدم الاستقرار الاقتصادي وتراجع معدلات النمو، لكن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي قفز بعد ذلك ليصل إلى معدل سنوي بلغ في المتوسط 4.8 في المائة خلال الفترة 2000 - 2010، حين بدأت السياسات الاقتصادية الجديدة تؤتي أكلها.
لقد تضررت الشركات وتأثرت سلباً بفعل الأحداث في المنطقة. وليس هناك عدد كبير من الشركات التي تعتزم التوسع، وتظل البنوك بصورة عامة حذرة في إعطاء القروض. ومن الممكن أن يكون للتحقيقات في الفساد، رغم أنها ضرورية تماماً، آثار عكسية إذا تحولت إلى عمليات انتقامية ضد جميع أصحاب الأعمال. كذلك من الممكن أن يشتعل فتيل الآثار العكسية بسهولة بفعل المحاولات الرامية لوقف هروب رأس المال عن طريق فرض قيود وضوابط جديدة، في وقت تتراجع فيه التحويلات المالية من الخارج (من ليبيا مثلا). هذه العوامل، إلى جانب التراجع في عدد السياح، وتراجع الاستثمارات من الخارج، وإيقاف الحكومات للمشاريع بسبب الافتقار إلى التمويل، يمكن أن يؤدي إلى تقلص النشاطات الاقتصادية هذا العام في تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن والبحرين، وإلى تباطؤها في لبنان والأردن والمغرب. منذ فترة طويلة كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والغرب بصورة عامة يشجعون الإصلاحات القائمة على أفكار السوق، والتخصيص، والسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا. وفي حين أن هذه السياسات أفلحت في توليد معدلات أعلى في النمو الاقتصادي الرئيسي، إلا أن النتائج لم تَرْشح إلى الجماهير، كما أن القطاعات الخاصة لم تُعطَ القدرة على القيادة بصورة حاسمة. كذلك لم يتم توليد فرص التوظيف التي تدعو الحاجة إليها بصورة ماسة. وتوسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولم تستفد من الطفرة في قطاع العقارات إلا أقلية صغيرة. وفي دراسة لمؤسسة جالوب، تبين أن خُمس المصريين والتونسيين الذين شاركوا في الاستطلاع في السنة الماضية، قالوا إن أوضاعهم الاقتصادية كانت تتحسن في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد في البلدين يسجل نمواً سنوياً بنسبة 5 في المائة. وفي معظم بلدان المنطقة، وعلى الرغم من الإصلاحات وكثير من عمليات التخصيص الناجحة، يظل القطاع العام هو المهيمن، ويشكل أكثر من 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في البلد. كذلك الحكومات تسيطر على بعض الأسعار بصورة مباشرة وتؤثر على الأسعار الأخرى من خلال الدعم الحكومي، وتظل الحكومات هي صاحبة أكثر الوظائف في المنطقة. مع ذلك تظل الحكومات ضعيفة بصورة عامة في المجالات التي تدعو الحاجة الماسة إليها، مثل دورها في المجال التنظيمي وفرض أحكام العقود ومكافحة الفساد. وتشكل الشهور والسنوات المقبلة تحديات وستشهد عدداً من النكسات. ويحتاج الأمر في العادة إلى بضع سنوات كي يتمكن النظام الجديد من تثبيت وتعزيز وضعه ولتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية بعيدة المدى. والإصلاحات التي تحتاجها المنطقة أكثر ما تحتاج إليها، تشتمل على تقليص القطاع العام، وتقليص مبالغ العجز في الميزانيات، وإعادة هيكلة مبالغ الدعم الحكومي وقصرها على المحتاجين، وتعزيز المشاريع الخاصة، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية. وينبغي على الحكومات إرسال رسالة واضحة مفادها أن الإصلاحات التي من هذا القبيل سيتم تنفيذها وأن آثارها ستظهر على مدى فترة طويلة من الزمن وليس بصورة فورية. وبالتالي، من الأهمية بمكان إدارة توقعات الناس في هذا الصدد. ينبغي إدخال التغييرات الاقتصادية الهيكلية بصورة تدريجية، لتقليص عوامل اللبس، ونشر الألم على مدى فترة طويلة، واستعادة المساندة الشعبية. وفي حين أن من الضروري تماماً أن تعزل الحكومات المسؤولين الفاسدين وتفرض وتطبق قواعد للإشراف والرقابة في سبيل أن يصبح كل شخص قابلاً للمساءلة أكثر من ذي قبل، إلا أنه ينبغي أن يتم ذلك بطريقة منضبطة. لا ينبغي فصل كل شخص كان مرتبطاً بالإدارات الفاسدة سيئة السمعة، ولم تكن كل الشركات التي كانت لها تعاملات مع أعوان الأنظمة السابقة فاسدة بالضرورة. إن المنهج الذي من هذا القبيل يمكن أن يوقف عمل الأجهزة الحكومية ويدمر القطاع الخاص ويُحدِث الاضطراب في النشاطات الاقتصادية. وينبغي أيضا اتباع استراتيجية جديدة قائمة على النمو الأكثر استدامة من ذي قبل والأكثر شمولاً للناس، على نحو يعزز نشوء الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على قدر أكبر من اليد العاملة، وتساندها في ذلك مؤسسات مالية راغبة وقادرة على تمويل نموها. ففي المتوسط لا يذهب سوى 8 في المائة فقط من قروض البنوك في المنطقة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي نسبة متدنية للغاية بالمعايير الدولية. والشركات الصغيرة والمتوسطة في بلدان مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة وتركيا تشكل نحو 90 في المائة من إجمالي فرص التوظيف. كذلك هناك حاجة إلى إنشاء شبكة سلامة متطورة للجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك التعويض عن البطالة، وتقديم مساعدات نقدية لمجموعات مستهدفة، بدلاً من تقديم الدعم الحكومي لأسعار المواد الغذائية والوقود والمنافع، التي ينتفع منها الأغنياء أكثر من الفقراء والتي تؤدي دائماً إلى هدر الاستهلاك وإلى خيارات استثمارية عديمة الكفاءة. من الممكن أن يتبين أن التحول الاقتصادي في الشرق الأوسط سيكون أطول وأشد اضطراباً مما حدث في أوروبا الشرقية. والسبب لا يعود فقط إلى عدم وجود الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وإنما كذلك لأن الانتفاضات الشعبية ألهمت الناس مطالبات جديدة بالوظائف وزيادة الأجور، وهي أمور لا تستطيع القطاعات العامة المترهلة في المنطقة تقديمها، ولا تعتبر القطاعات الخاصة راغبة أو قادرة على توليدها. إن التغيرات التي تكتسح المنطقة يتيح للبلدان العربية وضعاً مؤاتيا لتوجيه السياسات الاقتصادية في اتجاه جديد، يستأصل الفساد ويلبي مطالب الناس بالحصول على قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، ويولد توظيفاً منتِجاً للشباب، ويعطي الفرص السليمة لأصحاب المشاريع كي يحققوا الازدهار، ويضع القطاع الخاص في مقعد المسؤولية. إذا شرعت الحكومات في عملية تحويل تدريجية حذرة، فإنها ستنجح في إقناع الناس بأن من الممكن تحقيق مستقبل أفضل وتقليص مخاطر حدوث موجة أخرى من الاحتجاجات.
الكاتب رئيس مجلس إدارة قسم الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا في فرع دويتشه بانك في دبي.