نهاية الرأسمالية أو بداية التضليل!
الاقتصادية
فهد إبراهيم الشثري - 03/11/1429هـ
[email protected]
في خضم الأزمة المالية الحالية تبين لي أن هناك خلطا كبيرا بين (النظام) الاقتصادي و(المنهج) المتبع لتطبيق هذا النظام. النظام الاقتصادي يمثل فكراً يتعلق بالملكية الفردية وحرية الأسواق والإنتاج والتوزيع للموارد كالنظام الرأسمالي, بينما يمثل المنهج الاقتصادي الطريقة التي يمكن بها تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية المرسومة كالمنهج الإسلامي في الاقتصاد. والنظام الاقتصادي الرأسمالي يحدد مبادئ أساسية تتمثل في حق الأفراد في تملك عناصر الإنتاج وتحديد أسعار المنتجات بناء على قوى العرض والطلب في السوق بما يكفل توزيعاً عادلاً وكفؤا للموارد بين عناصر الإنتاج الثلاثة: العمل و الأرض ورأس المال. بينما يحدد المنهج الاقتصادي الإسلامي الطريقة التي يتم بها تطبيق هذه المبادئ لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية بتحديد درجة الحرية اللازمة في الأسواق، سواء لإنتاج المنتجات أو لتسعيرها، بما يؤثر بطريقة توزيع الموارد المتاحة بين فئات المجتمع.
ومن هذا المنطلق، فإنه لا يوجد من حيث المبدأ تناقضاً بين النظام الرأسمالي والمنهج الاقتصادي في الإسلام، لاتفاقهما في المبادئ الأساسية. لكن الإسلام يحدد منهجاً متميزاً لطريقة تطبيق النظام الرأسمالي، أولاً بتقريره لتلك المبادئ، وثانياً بتحديده لمجموعة من القواعد التي تحكم عملية التبادل النقدي والسلعي وتوزيع الموارد بين أفراد المجتمع. وعلى عكس ما قد يعتقده البعض، فالنظام الرأسمالي (كفكر) هو نظام سابق للمنهج الاقتصادي الإسلامي لأنه نشأ مع نشوء أولى عمليات التبادل بين البشر، فجاء الإسلام ليهذب هذا النظام ويقومه لا ليلغيه أو ليكون بديلاً عنه. لذلك تجد أن الكثير من الكتاب الغربيين يشيرون إلى أن الدولة الإسلامية هي أول من أسس لنظام رأسمالي بشكله الحديث بتقريرها لحق الأفراد بالتملك والإنتاج وللأسواق بتحديد الأسعار وبتأسيسها لأسس ومبادئ التجارة الدولية. لكن الصياغة العلمية لهذا النظام بدأت تتشكل في مقدمة بن خلدون، الذي يعده البعض الأب الحقيقي لعلم الاقتصاد، وتبلورت مع نشر آدم سميث لكتابه (ثروة الأمم) في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.
هذه الرؤية قد لا تجد لها صدى في أوساط بعض المفكرين، خصوصاً في الوقت الحالي المتزامن مع الأزمة المالية العالمية الذي أظهر سوقاً رائجة للحديث عن نهاية الرأسمالية. حيث يسعى هؤلاء إلى إقناع العامة بالتناقض (الكامل) بين النظام الرأسمالي والمنهج الإسلامي في الاقتصاد لأهداف (سياسية أيديولوجية) بحتة دون أدنى اعتبار للمبادئ العلمية التي يحدد على أساسها هذا التناقض من عدمه. لذلك تجدهم يختزلون هذا النظام برمته (بالمنهج) الرأسمالي الأمريكي وبجزئية معينة تتعلق (بالربا) دون وعي (أو بتجاهل) للفرق بين (النظام) الاقتصادي و(المنهج) المتبع لتطبيق هذا النظام. فإذا كانت هناك مشكلة اقتصادية كالأزمة المالية الحالية فهي تتعلق بالمنهج (الأمريكي) المتبع لتطبيق هذا النظام وليس بالنظام نفسه. أما إذا أصروا على أن المشكلة تتعلق بالنظام الرأسمالي نفسه فعلينا إذاً مراجعة كل مبادئ هذا النظام وأولاها مبدأ الملكية الفردية. هذا الخلط (بين الحابل والنابل) له عواقب اجتماعية واقتصادية وسياسية وخيمة أبسطها تضليل القارئ، وهنا أتساءل وأدعو القارئ العزيز إلى أن يساعدني في الإجابة على هذا التساؤل: من يا ترى المستفيد (الحقيقي) من ذلك التضليل؟
الأزمة المالية العالمية، وإن مثلت كارثة بالنسبة للعالم أجمع وليس لأمريكا وحدها، إلا أنها أظهرت بشكل جلي أنه لا يوجد (منهج) اقتصادي يمثل حصناً منيعاً ضد مثل هذه الأزمات وحتى في الدول التي تطبق منهجاً اقتصادياً إسلامياً صرفاً. والسبب في ذلك، أن المنهج (سواءً كان أمريكياً أو يابانياً أو إسلامياً) عرضة للاستغلال من قبل مطبقيه. وهذا الاستغلال وإن أخذ شكل (الفائدة الربوية) المرتفعة على قروض الفقراء في المنهج الرأسمالي (الأمريكي)، فإنه قد يأخذ شكل (معدل الربح) المرتفع على عمليات المرابحة أو الإجارة الإسلامية مع الفقراء أيضاً. بما يعني أن رفع شعار الاقتصاد الإسلامي من قبل دولة أو منشأة مالية لا يمثل ضمانة كافية لتفادي الأزمات المالية إذا كانت سياسات التطبيق لا تراعي الكفاءة الاقتصادية المبنية على المنهج العلمي للاقتصاد. وهنا أتساءل مرة أخرى وأدعو القارئ العزيز للإجابة على هذا التساؤل: كيف سنتعامل (فكرياً) مع الأزمة المالية في حال حدوثها في دولة تطبق منهجاً إسلامياً في الاقتصاد؟
إن محاولة سلخ الاقتصاد الإسلامي (كمنهج) من النظام أو الفكر الرأسمالي لا يستند إلى منطق علمي (شرعي أو اقتصادي) صحيح. وتغذية ذلك السلخ من خلال الحديث عن انهيار الرأسمالية (كنظام)، دون التفرقة بينها وبين المنهج موضع الاتهام، إنما هو زج بكل من النظام الرأسمالي وجميع المناهج التي تطبقه - ومن ضمنها المنهج الاقتصادي الإسلامي - في قفص الاتهام نفسه. وبدلاً من ذلك، حري بنا أن نتساءل عما إذا كانت المصرفية الإسلامية بوضعها الحالي بعيدة كل البعد عن الوقوع في شراك الأزمة التي بدأت آثارها في الامتداد إلى مناطق نفوذها الاقتصادي في ظل عملية (النسخ واللصق) التي تمارسها (بعض) المؤسسات المالية الدخيلة باسم الإسلام.