ما ثمن مساهمة عرب النفط في إنقاذ إقتصادات الغرب؟
د. عصام نعمان
لم يُخفِ رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون سبب جولته الأخيرة في دول الخليج العربية. فبعد إجتماعه إلى رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو عشية جولته، أكد الرجلان ان 'صندوق الإنقاذ' التابـع لصندوق النقد الدولي، وحجمــه 250 مليار دولار، لن يكون كافياً لمساعدة الدول المحتاجة. لذلك 'تتجه أنظار الغربيين الى السعودية والصين'.
لم يكتفِ براون بهذا التوضيح. أضاف في مقابلة مع شبكة 'سكاي نيوز' التلفزيونية ان الهدف الرئيسي من الجولة مساعدة الأسر البريطانية في هذه الأزمة. لكن، بما ان المشاكل عالمية فهي تتطلب حلولا عالمية أيضا. فالسعودية وغيرها من دول الخليج مهمة جداً لأنها تملك اكبر احتياطات النفط. لذلك من يبدأ بمفاوضات مع السعودية وغيرها من الدول سينتهي بمزيد من الأمن والأمان للأسر والشركات في بريطانيا'.
المسألة واضحة تماما. النظام المالي في بريطانيا إنهار أو كاد الأمر الذي إنعكس على مستوى معيشة الأسر البريطانية ويستوجب معالجة سريعة. وبما ان الأزمة المالية ليست بريطانية فقط بل عالمية بإمتياز، فلا سبيل والحالة هذه إلى معالجتها بمعزل عن معالجة أزمة النظام المالي العالمي. لذلك فقد سارع براون إلى زيارة دول الخليج التي وصفها بأن 'لديها إيرادات نفطية كبيرة يمكن ان تُسهم في تقديم المساعدة الى الدول المحتاجة'، ومن ضمنها بريطانيا. بإختصار، الغرب بل العالم بحاجة اليوم إلى العرب (وإلى الصين أيضا!) لإنقاذه من الأزمة الخانقة التي يرتع فيها. وإذا كان لدى الصين من الثقل البشري والمادي والإرادة السياسية ما يمكّنها من الحصول على ثمن سياسي وإقتصادي لمساهمتها غير المجانية في إنقاذ الغرب والعالم، فماذا لدى عرب النفط من أسباب القوة الإقتصادية والسياسية للحصول على ثمن عادل لقاء المساعدة المطلوبة منهم؟
براون إستشعر إمكانية طرح هذا السؤال عليه وعلى بقية قادة الغرب اللاهثين وراء تمويلات لسد عجز ميزانياتهم المضطربة وتوفير السيولة لمصارفهم المتعثرة، فأجاب في خطبته أمام مؤتمر 'اديبك 2008' في ابو ظبي 'أن الدول التي تشارك في دعم صندوق النقد الدولي مالياً يجب ان تحظى بدور اكبر في إدارة الصندوق عموما'.
لم يوضح براون طبيعة 'الدور' الذي 'ستحظى' به دول الخليج التي ستساهم في دعم صندوق النقد الدولي بل اكتفى بالقول إن السعودية أبدت استعداداً لتقديم الدعم المطلوب. ولعل الرياض ستحدد موقفها ومقدار دعمها في إجتماع الدول العشرين الذي سيعقد في واشنطن منتصفَ الشهر الجاري.
ثمة متسع من الوقت، إذاً، كي يتدبر عرب النفط أمرهم ويدرسون مقدار مساهمتهم في إنقاذ إقتصادات الغرب وطبيعة دورهم في 'إصلاح' النظام المالي العالمي وفي إدارة صندوق النقد الدولي. فماذا يجب إدراكه وفعله في هذا المجال؟
لعل أول ما يجب ان يدركه العرب عموما وعرب النفط خصوصاً ان بريطانيا ما بقيت عظمى إلاّ في سديم العقل الباطن لمن ما زال يعيش بفكره في النصف الأول من القرن الماضي، وان الولايات المتحدة هي اكبر دولة مدينة (مديونة) في التاريخ وان الكارثة المالية والاقتصادية التي تعاني منها حالياً قلّصت نفوذها السياسي وستقلص بإطراد هيمنتها المتصدعة في العالم، وان الوقت مؤاتٍ للدول التي لم تتأذَ من الأزمة المالية العالمية العاصفة بل ما زالت تملك احتياطات مالية ضخمة كي تضاعف معدل نمـوها العام وحجم نفوذها الإقليمي والدولي وفعالية دورها في المؤسسات المالية الدولية، ناهيك عما يمكن ان تحصل عليه، نتيجةَ هذه المزايا، من مكاسب سياسية وتستعيده من حقوق مغتصبة على الصعيدين المحلي والإقليمي.
ثاني ما يجب إدراكه ان لا خدمات مجانية بين الدول، وأن لكل عمل اجرا، وان ما طلبه براون ويطلبه سواه من قادة دول الغرب يجب ان يقابله ثمن عادل. هذه قواعد ثابتة في التعامل الدولي، ولا يُهمِل تطبيقها إلاّ الجهلة والضعفاء والجبناء.
ثالث ما يجب إدراكه وممارسته ان عرب النفط ليسوا وحدهم في العالم من يملك احتياطات مالية ضخمة. فالصين تملك 1300 مليار دولار، واليابان 900 مليار، ونروج 800 مليار، وروسيا 700 مليار، وسنغافورة 500 مليار، في حين ان مراجع غربية موثوقة تفيد ان ابو ظبي تملك 900 مليار، والسعودية 500 مليار، والكويت 400 مليار. لماذا لا يذهب براون وغيره إلى الدول التي تملك احتياطات اكبر من دول الخليج ليطالبها بدعم صندوق النقد الدولي وبمساهمات من شأنها توفيـر 'مزيد من الدعم للأسر والشركات في بريطانيا'؟ لأنه يدرك ان هذه الدول لا تغشّ نفسها بأن بريطانيا ما زالت عظمى، أو انها ستقوم بدعم اقتصادها أو برامج صندوق النقد الدولي مجاناً ولوجه الله تعالى! لذلك يذهب براون أولا إلى الدول التي يعتقد انها أضعف سياسياً من غيرها وانها في وارد تقديم خدمات مجانية لبلاده ولمؤسسات النظام المالي الدولي، وانها إذا طلبت مقابلاً لهذه الخدمات فإنه سيكون متواضعاً ولن تجد دول الغرب حرجاً او ضيقاً في تقديمه. رابع ما يجب إدراكه وممارسته ان الدول صاحبة اكبر الاحتياطات المالية في العالم، وقبلها الدول الصناعية التي 'كانت' كبرى قبل الأزمة المالية العالمية، وصلت إلى ما وصلت إليه من نمو وتقدم وقوة لأن حكوماتها حرصت دائما على توظيف قدراتها وإمكاناتها في بلادها حتى إذا تطورت وتقدمت وارتقت إلى أعلى مراتب الإقتدار تطلعت إلى توظيف فوائضها المالية ومواردها في الأسواق الخارجية. هذا ما فعلته اليابان فاستطاعت في زمن قياسي تعويض الخسائر الفادحة للحرب العالمية الثانية والتقدم لتصبح ثاني اكبر اقتصاد في العالم. وهذا ما فعلته دول أوروبا الغربية، بالإضافـة إلى إقامة سوق مشتركة فيما بينها تحولّت لاحقاً اتحاداً أوروبياً يضم 27 دولة، فتمكّنت من التطور والتقدم بوتيرة سريعة أزاحت معها اليابان لتحلّ محلها في مرتبة ثاني اكبر اقتصاد في العالم. وهذا ما تفعله الصين حاليا التي يقدر خبراء الاقتصاد الدوليون ان اقتصادها سيحتل المرتبة الأولى، أي قبل الولايات المتحدة، في حدود العام 2015.
إذا كان هذا هو درس التنمية والتقدم الذي يقدمه لنا التاريخ المعاصر، فهل يجوز للعرب عموما ولعرب النفط خصوصاً أن يتجاهلوه بسبب من جهل أو تخلف أو قصور سياسي أو جبن قيادي؟ هل يجوز أن تبقى دول النفط العربية أسيرة لعبة تدوير عائـدات النفط، فتذهب فوائضها المالية إلى خزائن ومصارف ومشروعات دول الغرب ؟ وهل إيداع هذه الفوائض في دول الغرب آمن من توظيفها في تنمية الإقتصادات المحلية والإقتصادات العربية؟ ألم يدرك قادة عرب النفط كم هشة ومكشوفة اقتصادات دول أمريكا وأوروبا وكيف انهارت مصارفها ومؤسساتها الإستثمارية في غمرة الأزمة المالية العالمية؟ أيجوز ان يلدغ المستثمرون العرب، حكومات وأفراداً، من الجحر الغربي مرتين؟
خامس ما يجب إدراكه وممارسته ان الثروات تنتقل بإطراد من أمريكا وأوروبا الى آسيا. هذا ما رصدته ووثقته وكالات الإستخبارات الأمريكية في تقريرها الإستقصائي الأخير، وكان رصده قبلها ومعها الكثير من مؤسسات الدراسات الإستراتيجية والإقتصادية. إذا كان هذا هو مسار التاريخ، الجاري والمستقبلي، فهل يجوز ان يسير عرب النفط بعكس مجرى التاريخ؟
يتأسس على إدراك هذه الظاهرة ضرورة إستراتيجية غالبة هي التفكير والتدبير والتخطيط والتنفيذ في إطار رؤية للعصر نابعة من ثقافة الأمة ومصالحها، وهادفة الى تحديث هذه الثقافة وإنماء هذه المصالح وحمايتها، وذلك في إطار مشروع عربي نهضوي، متفاعل مع الإسلام بما هو مستودع قيم وقواعد إنسانية، ومجدد له من داخله بما هو هوية حضارية ومحرك اجتماعي وسياسي، ومتكامل مع ثقافات العالم المتنوعة والمتفاعلة فيما بينها.
أجل، يجب ان ينتدب العرب الأحياء أنفسهم لهذه المهمة التاريخية من اجل الخروج من الإنحطاط والإلتزام بصناعة حاضر حرّ وعصري ومستقبل إنساني واعد قبل ان تنضب مواردنا الطبيعية وتذوب قدراتنا وتفيض علينا أزمات كوكبنا الأرضي وتحدياته غداة دخول النظام العالمي في مرحلة تاريخية جديدة وغامضة.
ان المهمة، كما التحديات، تاريخية. والمواجهة ليست مسؤولية الأسر والشبكات الحاكمة في بلادنا فحسب بل مسؤولية القوى الحية أيضا وبالدرجة الأولى، وخصوصاً الفئات المجتمعية المتضررة والمعانية من التسلط السياسي والظلم الاجتماعي والقمع المنهجي للحريات العامة والإملاء المنظم لثقافة كوزموبوليتية على الجمهور.
انها مهمة المقاومة، المدنية والميدانية، في سياق ثورة عالمية، نعم ثورة عالمية، متدرجة وعابرة لحدود الدول وحواجز النظم القامعة لحرية الإنسان وكرامة الشعوب.
' كاتب وسياسي من لبنان
د. عصام نعمان
لم يُخفِ رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون سبب جولته الأخيرة في دول الخليج العربية. فبعد إجتماعه إلى رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو عشية جولته، أكد الرجلان ان 'صندوق الإنقاذ' التابـع لصندوق النقد الدولي، وحجمــه 250 مليار دولار، لن يكون كافياً لمساعدة الدول المحتاجة. لذلك 'تتجه أنظار الغربيين الى السعودية والصين'.
لم يكتفِ براون بهذا التوضيح. أضاف في مقابلة مع شبكة 'سكاي نيوز' التلفزيونية ان الهدف الرئيسي من الجولة مساعدة الأسر البريطانية في هذه الأزمة. لكن، بما ان المشاكل عالمية فهي تتطلب حلولا عالمية أيضا. فالسعودية وغيرها من دول الخليج مهمة جداً لأنها تملك اكبر احتياطات النفط. لذلك من يبدأ بمفاوضات مع السعودية وغيرها من الدول سينتهي بمزيد من الأمن والأمان للأسر والشركات في بريطانيا'.
المسألة واضحة تماما. النظام المالي في بريطانيا إنهار أو كاد الأمر الذي إنعكس على مستوى معيشة الأسر البريطانية ويستوجب معالجة سريعة. وبما ان الأزمة المالية ليست بريطانية فقط بل عالمية بإمتياز، فلا سبيل والحالة هذه إلى معالجتها بمعزل عن معالجة أزمة النظام المالي العالمي. لذلك فقد سارع براون إلى زيارة دول الخليج التي وصفها بأن 'لديها إيرادات نفطية كبيرة يمكن ان تُسهم في تقديم المساعدة الى الدول المحتاجة'، ومن ضمنها بريطانيا. بإختصار، الغرب بل العالم بحاجة اليوم إلى العرب (وإلى الصين أيضا!) لإنقاذه من الأزمة الخانقة التي يرتع فيها. وإذا كان لدى الصين من الثقل البشري والمادي والإرادة السياسية ما يمكّنها من الحصول على ثمن سياسي وإقتصادي لمساهمتها غير المجانية في إنقاذ الغرب والعالم، فماذا لدى عرب النفط من أسباب القوة الإقتصادية والسياسية للحصول على ثمن عادل لقاء المساعدة المطلوبة منهم؟
براون إستشعر إمكانية طرح هذا السؤال عليه وعلى بقية قادة الغرب اللاهثين وراء تمويلات لسد عجز ميزانياتهم المضطربة وتوفير السيولة لمصارفهم المتعثرة، فأجاب في خطبته أمام مؤتمر 'اديبك 2008' في ابو ظبي 'أن الدول التي تشارك في دعم صندوق النقد الدولي مالياً يجب ان تحظى بدور اكبر في إدارة الصندوق عموما'.
لم يوضح براون طبيعة 'الدور' الذي 'ستحظى' به دول الخليج التي ستساهم في دعم صندوق النقد الدولي بل اكتفى بالقول إن السعودية أبدت استعداداً لتقديم الدعم المطلوب. ولعل الرياض ستحدد موقفها ومقدار دعمها في إجتماع الدول العشرين الذي سيعقد في واشنطن منتصفَ الشهر الجاري.
ثمة متسع من الوقت، إذاً، كي يتدبر عرب النفط أمرهم ويدرسون مقدار مساهمتهم في إنقاذ إقتصادات الغرب وطبيعة دورهم في 'إصلاح' النظام المالي العالمي وفي إدارة صندوق النقد الدولي. فماذا يجب إدراكه وفعله في هذا المجال؟
لعل أول ما يجب ان يدركه العرب عموما وعرب النفط خصوصاً ان بريطانيا ما بقيت عظمى إلاّ في سديم العقل الباطن لمن ما زال يعيش بفكره في النصف الأول من القرن الماضي، وان الولايات المتحدة هي اكبر دولة مدينة (مديونة) في التاريخ وان الكارثة المالية والاقتصادية التي تعاني منها حالياً قلّصت نفوذها السياسي وستقلص بإطراد هيمنتها المتصدعة في العالم، وان الوقت مؤاتٍ للدول التي لم تتأذَ من الأزمة المالية العالمية العاصفة بل ما زالت تملك احتياطات مالية ضخمة كي تضاعف معدل نمـوها العام وحجم نفوذها الإقليمي والدولي وفعالية دورها في المؤسسات المالية الدولية، ناهيك عما يمكن ان تحصل عليه، نتيجةَ هذه المزايا، من مكاسب سياسية وتستعيده من حقوق مغتصبة على الصعيدين المحلي والإقليمي.
ثاني ما يجب إدراكه ان لا خدمات مجانية بين الدول، وأن لكل عمل اجرا، وان ما طلبه براون ويطلبه سواه من قادة دول الغرب يجب ان يقابله ثمن عادل. هذه قواعد ثابتة في التعامل الدولي، ولا يُهمِل تطبيقها إلاّ الجهلة والضعفاء والجبناء.
ثالث ما يجب إدراكه وممارسته ان عرب النفط ليسوا وحدهم في العالم من يملك احتياطات مالية ضخمة. فالصين تملك 1300 مليار دولار، واليابان 900 مليار، ونروج 800 مليار، وروسيا 700 مليار، وسنغافورة 500 مليار، في حين ان مراجع غربية موثوقة تفيد ان ابو ظبي تملك 900 مليار، والسعودية 500 مليار، والكويت 400 مليار. لماذا لا يذهب براون وغيره إلى الدول التي تملك احتياطات اكبر من دول الخليج ليطالبها بدعم صندوق النقد الدولي وبمساهمات من شأنها توفيـر 'مزيد من الدعم للأسر والشركات في بريطانيا'؟ لأنه يدرك ان هذه الدول لا تغشّ نفسها بأن بريطانيا ما زالت عظمى، أو انها ستقوم بدعم اقتصادها أو برامج صندوق النقد الدولي مجاناً ولوجه الله تعالى! لذلك يذهب براون أولا إلى الدول التي يعتقد انها أضعف سياسياً من غيرها وانها في وارد تقديم خدمات مجانية لبلاده ولمؤسسات النظام المالي الدولي، وانها إذا طلبت مقابلاً لهذه الخدمات فإنه سيكون متواضعاً ولن تجد دول الغرب حرجاً او ضيقاً في تقديمه. رابع ما يجب إدراكه وممارسته ان الدول صاحبة اكبر الاحتياطات المالية في العالم، وقبلها الدول الصناعية التي 'كانت' كبرى قبل الأزمة المالية العالمية، وصلت إلى ما وصلت إليه من نمو وتقدم وقوة لأن حكوماتها حرصت دائما على توظيف قدراتها وإمكاناتها في بلادها حتى إذا تطورت وتقدمت وارتقت إلى أعلى مراتب الإقتدار تطلعت إلى توظيف فوائضها المالية ومواردها في الأسواق الخارجية. هذا ما فعلته اليابان فاستطاعت في زمن قياسي تعويض الخسائر الفادحة للحرب العالمية الثانية والتقدم لتصبح ثاني اكبر اقتصاد في العالم. وهذا ما فعلته دول أوروبا الغربية، بالإضافـة إلى إقامة سوق مشتركة فيما بينها تحولّت لاحقاً اتحاداً أوروبياً يضم 27 دولة، فتمكّنت من التطور والتقدم بوتيرة سريعة أزاحت معها اليابان لتحلّ محلها في مرتبة ثاني اكبر اقتصاد في العالم. وهذا ما تفعله الصين حاليا التي يقدر خبراء الاقتصاد الدوليون ان اقتصادها سيحتل المرتبة الأولى، أي قبل الولايات المتحدة، في حدود العام 2015.
إذا كان هذا هو درس التنمية والتقدم الذي يقدمه لنا التاريخ المعاصر، فهل يجوز للعرب عموما ولعرب النفط خصوصاً أن يتجاهلوه بسبب من جهل أو تخلف أو قصور سياسي أو جبن قيادي؟ هل يجوز أن تبقى دول النفط العربية أسيرة لعبة تدوير عائـدات النفط، فتذهب فوائضها المالية إلى خزائن ومصارف ومشروعات دول الغرب ؟ وهل إيداع هذه الفوائض في دول الغرب آمن من توظيفها في تنمية الإقتصادات المحلية والإقتصادات العربية؟ ألم يدرك قادة عرب النفط كم هشة ومكشوفة اقتصادات دول أمريكا وأوروبا وكيف انهارت مصارفها ومؤسساتها الإستثمارية في غمرة الأزمة المالية العالمية؟ أيجوز ان يلدغ المستثمرون العرب، حكومات وأفراداً، من الجحر الغربي مرتين؟
خامس ما يجب إدراكه وممارسته ان الثروات تنتقل بإطراد من أمريكا وأوروبا الى آسيا. هذا ما رصدته ووثقته وكالات الإستخبارات الأمريكية في تقريرها الإستقصائي الأخير، وكان رصده قبلها ومعها الكثير من مؤسسات الدراسات الإستراتيجية والإقتصادية. إذا كان هذا هو مسار التاريخ، الجاري والمستقبلي، فهل يجوز ان يسير عرب النفط بعكس مجرى التاريخ؟
يتأسس على إدراك هذه الظاهرة ضرورة إستراتيجية غالبة هي التفكير والتدبير والتخطيط والتنفيذ في إطار رؤية للعصر نابعة من ثقافة الأمة ومصالحها، وهادفة الى تحديث هذه الثقافة وإنماء هذه المصالح وحمايتها، وذلك في إطار مشروع عربي نهضوي، متفاعل مع الإسلام بما هو مستودع قيم وقواعد إنسانية، ومجدد له من داخله بما هو هوية حضارية ومحرك اجتماعي وسياسي، ومتكامل مع ثقافات العالم المتنوعة والمتفاعلة فيما بينها.
أجل، يجب ان ينتدب العرب الأحياء أنفسهم لهذه المهمة التاريخية من اجل الخروج من الإنحطاط والإلتزام بصناعة حاضر حرّ وعصري ومستقبل إنساني واعد قبل ان تنضب مواردنا الطبيعية وتذوب قدراتنا وتفيض علينا أزمات كوكبنا الأرضي وتحدياته غداة دخول النظام العالمي في مرحلة تاريخية جديدة وغامضة.
ان المهمة، كما التحديات، تاريخية. والمواجهة ليست مسؤولية الأسر والشبكات الحاكمة في بلادنا فحسب بل مسؤولية القوى الحية أيضا وبالدرجة الأولى، وخصوصاً الفئات المجتمعية المتضررة والمعانية من التسلط السياسي والظلم الاجتماعي والقمع المنهجي للحريات العامة والإملاء المنظم لثقافة كوزموبوليتية على الجمهور.
انها مهمة المقاومة، المدنية والميدانية، في سياق ثورة عالمية، نعم ثورة عالمية، متدرجة وعابرة لحدود الدول وحواجز النظم القامعة لحرية الإنسان وكرامة الشعوب.
' كاتب وسياسي من لبنان
Comment