النرويج النفطية تقدم نموذجا تنمويا مغايرا
محمد الصياد
النرويج من الدول الرئيسية المنتجة للنفط خارج اطار منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، وهي دول لا تكاد تعد على أصابع اليد.
وبخلاف ذلك، فهي ليست دولة نفطية نامية كما هو سائر الدول الرئيسية المنتجة للنفط وانما هي دولة أوروبية متقدمة عدد سكانها اقل من خمسة ملايين نسمة (4.6 مليون نسمة بالضبط) ومساحتها تبلغ 324,222 كيلومترا مربعا.
وهي مملكة دستورية رفض شعبها في استفتاء عام أُجري في عام 1994 الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مفضلا احتفاظه باستقلاليته والتمتع بخيرات بلاده.
يبلغ انتاج النرويج النفطي ثلاثة ملايين برميل يوميا، مما يضعها في مصاف كبرى الدول المنتجة للنفط في العالم. وفي العام 1995 أصبحت ثاني اكبر دولة في العالم بعد السعودية من حيث الصادرات النفطية.
رغم ان تقرير الأمم المتحدة السنوي للتنمية البشرية يضع النرويج على مدى السنوات الماضية (أول تقرير صدر عام 1992) على رأس قائمة الدول في العالم الأكثر ملاءمة للعيش فيها بناء على نوعية الحياة (Quality of life) السائدة فيها – الا ان النرويج لم تشأ سلوك الطريق الهولندي الذي تنعَّم، بموجبه، الشعب الهولندي بثروته النفطية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قبل ان تنضب فيما بعد وتصاب هولندا بما صار يعرف بالمرض الهولندي، المتمثل في إدمان الاستهلاك وإهمال الاستثمار المنتج (بكسر التاء) للثروة الناضبة. فلقد آثرت النرويج التصرف على أساس ان ثروتها النفطية طارئة وإنها إلى زوال، فلم ترهن تنميتها المستدامة للنفط وحده وانما عملت على تنويع مصادر مداخيلها وعلى استثمار عوائدها النفطية استثمارا منتجا.
واذا كانت النرويج اليوم هي ثالث اكبر مصدر للنفط في العالم بعد السعودية وروسيا، فإنها أيضا وبرغم عضويتها في منظمة عسكرية ذات عقيدة قتالية هجومية هي الناتو- مقر لجائزة نوبل، وهي تعمل على التوسط لحل بعض الأزمات العالمية، كما حدث بالنسبة لتوسطها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتقدم معونات خارجية هي الأكبر بين كافة دول العالم التي تقدم مثل هذه المعونات للدول النامية بقياس حجمها وعدد السكان.
ومن الواضح ان النرويج قد اتعظت من دروس الدول النفطية التي أسكرتها روائح إيراداتها الهاطلة عليها دون جهد أو عناء فانتشت وضلت طريق التنمية القويم. فلقد اتخذت النرويج لها طريقا آخر، حيث أنشأت بمبادرة من برلمانها في عام 1990 صندوق التقاعد النرويجي العالمي (Norwegian Pension Fund-Global)، وبعد إقراره، تم البدء بإيداع الأموال فيه اعتبارا من عام 1996.
واليوم فان رصيد هذا الصندوق يبلغ 263 مليار دولار، وهو يدار من قبل الحكومة وفقا لقواعد توظيفية صارمة جدا وضعتها في عام 2004، وأنشأت لذلك هيئة قائمة على مبدئي النزاهة والشفافية أسمتها مجلس الالتزام بقواعد الأخلاق (Council of Ethics) الذي يقوم بالإشراف على ومتابعة سير توظيفات الصندوق في أكثر من 4000 شركة عبر العالم.
ويضطلع هذا المجلس أيضا بوظيفة التأكد من ان أموال صندوق الاستثمار النرويجي المراد منه تأمين مستقبل الأجيال النرويجية القادمة، لا توظف في شركات لها علاقة بإنتاج الأسلحة أو انتهاكات حقوق الإنسان أو إلحاق أضرار بالبيئة أو الرشاوى والفساد.
واستنادا إلى هذه المعايير، فقد وضع المجلس المذكور عددا من الشركات العالمية على قائمته السوداء التي تُحرم الشركات المدرجة عليها من الاستفادة من توظيفات صندوق الأجيال النرويجي.
ومنذ تطبيق هذه المعايير في عام 2004 تم إدراج 18 شركة على هذه القائمة 12 منها أمريكية من بينها شركة Kerr-McGee Corp. العاملة في مجال انتاج النفط والغاز.
وكانت شركة وول مارت، أكبر شركة عالمية في تجارة التجزئة، قد أُدرجت هذا العام على القائمة، إلى جانب شركة بوينج وهوني ول انترناشونال ولوكهيد مارتن كورب.
وتتلخص سياسة حكومة هذا البلد الأوروبي البالغ الثراء في تعظيم رأس مال هذا الصندوق وتنمية ثروة البلاد من اجل تأمين مستقبل كريم لملايين المتقاعدين عندما تجف آبار البلاد. ولم تحدد سنة معينة للشروع في استخدام أموال الصندوق ولا حجم المبلغ التي سيصرف لكل فرد، تاركة أمر ذلك لآلية الاقتصاد. حيث يتولى البنك المركزي النرويجي تشغيل الصندوق الذي يفوق رصيده اليوم بمقدار 2.5 حجم ميزانية الدولة في عام 2007 الجاري. علما بأن الحكومة كانت حولت إلى الصندوق 34 مليار دولار في عام 2005 وحده.
منتهى القول، هذا بلد نفطي اتخذ له مسارا مميزا في التعامل مع ثروته النفطية والغازية الطارئة. وهي تجربة تستحق الدراسة .. والاقتباس أيضا.
[email protected]
محمد الصياد
النرويج من الدول الرئيسية المنتجة للنفط خارج اطار منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك)، وهي دول لا تكاد تعد على أصابع اليد.
وبخلاف ذلك، فهي ليست دولة نفطية نامية كما هو سائر الدول الرئيسية المنتجة للنفط وانما هي دولة أوروبية متقدمة عدد سكانها اقل من خمسة ملايين نسمة (4.6 مليون نسمة بالضبط) ومساحتها تبلغ 324,222 كيلومترا مربعا.
وهي مملكة دستورية رفض شعبها في استفتاء عام أُجري في عام 1994 الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مفضلا احتفاظه باستقلاليته والتمتع بخيرات بلاده.
يبلغ انتاج النرويج النفطي ثلاثة ملايين برميل يوميا، مما يضعها في مصاف كبرى الدول المنتجة للنفط في العالم. وفي العام 1995 أصبحت ثاني اكبر دولة في العالم بعد السعودية من حيث الصادرات النفطية.
رغم ان تقرير الأمم المتحدة السنوي للتنمية البشرية يضع النرويج على مدى السنوات الماضية (أول تقرير صدر عام 1992) على رأس قائمة الدول في العالم الأكثر ملاءمة للعيش فيها بناء على نوعية الحياة (Quality of life) السائدة فيها – الا ان النرويج لم تشأ سلوك الطريق الهولندي الذي تنعَّم، بموجبه، الشعب الهولندي بثروته النفطية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي قبل ان تنضب فيما بعد وتصاب هولندا بما صار يعرف بالمرض الهولندي، المتمثل في إدمان الاستهلاك وإهمال الاستثمار المنتج (بكسر التاء) للثروة الناضبة. فلقد آثرت النرويج التصرف على أساس ان ثروتها النفطية طارئة وإنها إلى زوال، فلم ترهن تنميتها المستدامة للنفط وحده وانما عملت على تنويع مصادر مداخيلها وعلى استثمار عوائدها النفطية استثمارا منتجا.
واذا كانت النرويج اليوم هي ثالث اكبر مصدر للنفط في العالم بعد السعودية وروسيا، فإنها أيضا وبرغم عضويتها في منظمة عسكرية ذات عقيدة قتالية هجومية هي الناتو- مقر لجائزة نوبل، وهي تعمل على التوسط لحل بعض الأزمات العالمية، كما حدث بالنسبة لتوسطها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتقدم معونات خارجية هي الأكبر بين كافة دول العالم التي تقدم مثل هذه المعونات للدول النامية بقياس حجمها وعدد السكان.
ومن الواضح ان النرويج قد اتعظت من دروس الدول النفطية التي أسكرتها روائح إيراداتها الهاطلة عليها دون جهد أو عناء فانتشت وضلت طريق التنمية القويم. فلقد اتخذت النرويج لها طريقا آخر، حيث أنشأت بمبادرة من برلمانها في عام 1990 صندوق التقاعد النرويجي العالمي (Norwegian Pension Fund-Global)، وبعد إقراره، تم البدء بإيداع الأموال فيه اعتبارا من عام 1996.
واليوم فان رصيد هذا الصندوق يبلغ 263 مليار دولار، وهو يدار من قبل الحكومة وفقا لقواعد توظيفية صارمة جدا وضعتها في عام 2004، وأنشأت لذلك هيئة قائمة على مبدئي النزاهة والشفافية أسمتها مجلس الالتزام بقواعد الأخلاق (Council of Ethics) الذي يقوم بالإشراف على ومتابعة سير توظيفات الصندوق في أكثر من 4000 شركة عبر العالم.
ويضطلع هذا المجلس أيضا بوظيفة التأكد من ان أموال صندوق الاستثمار النرويجي المراد منه تأمين مستقبل الأجيال النرويجية القادمة، لا توظف في شركات لها علاقة بإنتاج الأسلحة أو انتهاكات حقوق الإنسان أو إلحاق أضرار بالبيئة أو الرشاوى والفساد.
واستنادا إلى هذه المعايير، فقد وضع المجلس المذكور عددا من الشركات العالمية على قائمته السوداء التي تُحرم الشركات المدرجة عليها من الاستفادة من توظيفات صندوق الأجيال النرويجي.
ومنذ تطبيق هذه المعايير في عام 2004 تم إدراج 18 شركة على هذه القائمة 12 منها أمريكية من بينها شركة Kerr-McGee Corp. العاملة في مجال انتاج النفط والغاز.
وكانت شركة وول مارت، أكبر شركة عالمية في تجارة التجزئة، قد أُدرجت هذا العام على القائمة، إلى جانب شركة بوينج وهوني ول انترناشونال ولوكهيد مارتن كورب.
وتتلخص سياسة حكومة هذا البلد الأوروبي البالغ الثراء في تعظيم رأس مال هذا الصندوق وتنمية ثروة البلاد من اجل تأمين مستقبل كريم لملايين المتقاعدين عندما تجف آبار البلاد. ولم تحدد سنة معينة للشروع في استخدام أموال الصندوق ولا حجم المبلغ التي سيصرف لكل فرد، تاركة أمر ذلك لآلية الاقتصاد. حيث يتولى البنك المركزي النرويجي تشغيل الصندوق الذي يفوق رصيده اليوم بمقدار 2.5 حجم ميزانية الدولة في عام 2007 الجاري. علما بأن الحكومة كانت حولت إلى الصندوق 34 مليار دولار في عام 2005 وحده.
منتهى القول، هذا بلد نفطي اتخذ له مسارا مميزا في التعامل مع ثروته النفطية والغازية الطارئة. وهي تجربة تستحق الدراسة .. والاقتباس أيضا.
[email protected]
Comment