Announcement

Collapse
No announcement yet.

احتفلوا بالثانية... لكن «العبرة» في الأولى!

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • احتفلوا بالثانية... لكن «العبرة» في الأولى!

    احتفلوا بالثانية... لكن «العبرة» في الأولى!

    محمد جابر الأنصاري

    الحياة 2005/05/15

    منذ بدأت الدعوة الأميركية الراهنة لنشر الديموقراطية والإصلاح بالمبادرات شبهالإيمانية وشبه الرسالية للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وأنا أستعيد من حين لآخرتجربة الرئيس الأميركي ودرو ولسون الذي حكم الولايات المتحدة بين 1913 و1921، وذلكلاقتناعي بأن تجربة ولسون الذي دخل تاريخ العالم المعاصر بدعوته الشهيرة إلى حق » تقرير المصير» لكل الشعوب جديرة بأخذ العظة والعبرة منها لأنها بدأت بوعود ورديةللعالم كله، وانتهت بذبولها بين خرائب الحرب العالمية الثانية - التي احتفلواأخيراً بانتصارات الحلفاء فيها - وهي حرب ما كانت ستحدث على الأرجح لو أن الأقوياءفي نهاية الحرب الأولى لم يلتفوا على مبادئ الرئيس ولسون ونقاطه الأربع عشرةليحققوا مصالحهم الضيقة ويثأروا من ألمانيا - التي لم تكن حملاً وديعاً في أي حال - ولو أن الرئيس ولسون من جانبه أعطى أهمية كافية لإعادة بناء أوروبا وخصوصاً ألمانيابعد دمار الحرب الأولى بخطة اقتصادية سخية إلى جانب سخائه النظري في إعلانالمبادئ..! وهو ما يواجه الإدارة الأميركية الحالية إذا أرادت أن تكتسب دعوتهاللديمقراطية أسساً أكثر ثباتاً في المجتمعات المعنية التي تعيش الملايين فيها «تحتخط الفقر»، حسب البنك الدولي.

    والواقع أن مبادرة الولايات المتحدة إلى «مشروع مارشال» لإنعاش أوروبا بعدانتهاء الحرب الثانية كان نتيجة اكتوائها واكتواء العالم معها بالتقتير الذي قابلتبه نداءات الحكماء الأوروبيين والأميركيين أنفسهم للإنفاق على إعادة اعمار أوربابعد الحرب الأولى التي انتهت بمعاهدة فرساي 1919 وانطوت على إجحاف وإرهاق كبيرلألمانيا خصوصاً وللشعوب الأوروبية عموماً، الأمر الذي أدى في عشرينات وثلاثيناتالقرن العشرين إلى كارثة مزدوجة بقيام أكثر دكتاتوريات العصر الحديث استبداداًوبطشاً وذلك في ظل اضطرابات أهلية سببها الأكبر الضائقة الاقتصادية التي لم تقتصرعلى بلد واحد وتمثلت في الانهيار المالي العالمي عام 1929، ثم الانحراف بعدها إلىالحرب العالمية الثانية التي تنطوي بلا شك على الكثير من الدروس والعبر، إلا أندروس تسوية نتائج الحرب الأولى هي التي تبدو أقرب اليوم إلى ما يخطط في المنطقةالعربية أو ما يُعرف بالشرق الأوسط الكبير.

    مختصر هذه الدروس يمكن إيجازه في التالي، وبإمكان القارئ المعاصر أن يلحظ الشبهبينها وبين ملامح التوجهات السياسية الراهنة بشأن التسوية في المنطقة:

    - أولاً : كان الرئيس الأميركي ودْرو ولسون بنزعة ديموقراطية شبه دينية يدعو إلىنشر الديموقراطية في العالم ومقاومة قوى الاستبداد، خصوصاً بعد قراره دخول أميركاإلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى سنة 1917، مطلقاً نقاط دعوته التي تضمنتحق تقرير المصير لشعوب العالم ورفض مبدأ «الاتفاقات السرية» بين الدول قاصداً بذلكما يشبه «سايكس بيكو» بين بريطانيا وفرنسا بعد افتضاح أمرها على يد لينين بقيامالثورة الروسية. ومن حيث الجوهر فليس ثمة فارق يذكر بين دعوة ولسون ودعوة بوشالحالية لنشر الديموقراطية.

    - ثانياً: بالمقابل، وللتناقض بين النظرية والتطبيق، كانت قوى الأمر الواقعحينئذ المتمثلة في بريطانيا وفرنسا وايطاليا «تستوعب» تلك الطروحات النظرية للرئيسولسون وتلتف عليها فوق الأرض مجهضةً الاحتمالات العملية المناقضة لمصالحها كقوىاستعمارية تقليدية بحيث لم يجد الرئيس ولسون في النهاية مناصاً من التقابل معحلفائه هؤلاء في «منتصف الطريق» بما أدى في الواقع إلى إجهاض ما نادى به من أفكار «سلمية أو تحررية» أو إلى إقرار «سلام شامل بلا نصر» أي بلا غالب أو مغلوب. ثم إن «عصبة الأمم» التي كانت فكرته وأصبحت هاجسه لمنع حروب المستقبل حولها حلفاؤهالأوروبيون إلى أداة دولية منحتهم «حق الانتداب» على مستعمراتهم السابقة! بحيث تغيراسم العملية من «استعمار» إلى «انتداب» معترف به دولياً لكن المحتوى الحقيقي لذلككان هو هو مع فارق شكلي بسيط تمثل في إخراج قانوني احتوى «المستجدات». ومن مفارقاتالتاريخ، بل سخريته، أن الرئيس الديموقراطي ولسون لم يستطع إدخال الولايات المتحدةعضواً في «عصبة الأمم» بسبب معارضة الحزب الجمهوري الأميركي لدخولها، بل رفضه أيضاًالتصديق على معاهدة فرساي 1919 التي أصبحت لقمة سائغة، أو بالأحرى تركت العالم، بمافيه ألمانيا، لقمة سائغة للحلفاء الأوربيين «المنتصرين»، أما مبادئ الرئيس ولسونفدخلت التاريخ حبراً على ورق يستطيع أي «معجب» بها أن يضعها في كأس ماء ويشـربه بكل «حرية»!

    ومن واقع الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي اليوم فإن ثمة حقائق قوة يتم خلقهاوفرضها على الأرض أمام دعوة الرئيس بوش لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة القادرةعلى البقاء والاستمرار بمفاصل متصلة على الأرض.

    والمؤمل ألا يحول متطرفو اسرئيل دعوة الرئيس بوش إلى «شربة ماء» كما حدث لدعوةسلفه الأسبق ودْرو ولسون. ولذا فإنا ننصح الرئيس وأركان إدارته، وخصوصاً الوزيرةكوندوليزا رايس بما لديها من ثقافة في السياسات المعاصرة، بقراءة تجربة الرئيسولسون، خصوصاً نهايتها الفاجعة، وتجنب الأسباب التي أدت إلى ذلك، في ما يختص اليومبمشروع الرئيس بوش لإحلال سلام حقيقي في الشرق الأوسط. ونحن على ثقة بأن الرئيسالأميركي الشاب قادر على تجنب مصير سلفه القديم بما يمتلكه من إرادة وعزيمة قويةلتحويل مبادئ دعوته إلى واقـع قابل للتحقيق. فلقد كان الرئيس ولسون رجلاً مسناً لدىإطلاقه معركة السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم أقعده المرض، الذي لم يعلنعنه، إلى حين انتهاء فترة رئاسته عام 1921 ونجاح معارضيه الجمهوريين داخل الولاياتالمتحدة في إجهاض أفكاره ليس لوقوفهم ضدها، ولكن لما رأوه من تنظير مجرد لا يخترقالواقع واستسلام لإرادة الحلفاء الأوروبيين في أطماعهم الاستعمارية. إلا أن الرئيسولسون - والحق يقال - كان قبل عجز الشيخوخة رئيساً قديراً بخلفية إدارية وأكاديميةعميقة. كما أنه جنب بلاده الانسياق للحرب العظمى في السنوات الثلاث الأولى منوقوعها، وكان شعار حملته الانتخابية لولايته الثانية: «لقد أبقانا ولسون بعيداً عنالحرب»!

    - ثالثاً: رغم ثقافة ولسون وخبرته، فإنه لم يستوعب - كما ألمحنا - أهمية إعادةبناء أوروبا اقتصادياً. لذلك فإن «مشروع مارشال» الأميركي لإعمارها تأجل عقوداًعدة، ودفع المجتمع الدولي والإنسانية ثمن هذا التأجيل الناجم عن التقتير في تحملمسـئولية التنمية في العالم، بقيام الدكتاتوريات الدموية واشتعال الحرب العالميةالثانية بكل مآسيها. ويجمع معظم المؤرخين على أن هذا السبب يمثل أهم أسباب هذهالحرب، التي كان من الممكن تفاديها، لو أن ولسون كان أبعد بصيرة في معضلة التنميةكشرط لا بد منه للديموقراطية.

    وهنا نصل إلى «العبرة» الأهم بالنسبة للحملة الأميركية الراهنة من أجل الإصلاحوالديموقراطية: ما لم تبلور الحكومة الأميركية مشروعاً عملاقاً للتنمية في العالمالعربي الإسلامي إلى جانب حماستها اللافتة للمبادئ الديموقراطية، فإننا نخشى أنيعيد التاريخ نفسه وتضيع هذه الفرصة. وربما كان «منتدى المستقبل» الذي انعقد فيالمغرب في ديسمبر 2004 وينعقد في نوفمبر هذا العام في البحرين، الإطار المناسبللتفكير في مثل هذا المشروع الإنمائي الواسع إذا أريد للديمقراطية أن تكتسب ركائزاجتماعية قادرة على حمايتها.

    يضيق بعض المنفعلين والواقعين تحت أحداث اللحظة بقراءات التاريخ ذات الصلة بماهم فيه.

    ولا بد من التكرار: من لا يتعظ بأخطاء تاريخه، مكتوب عليه دفع ثمنها منجديد!

    فهـل من متعظ؟!

    مفكر وكاتب من البحرين.

    {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}
Working...
X