العرب منذ ناصر إلى نصر الله
د. حسناء القنيعير - الرياض
إن متأمل الراهن العربي لا يكاد يجد فيه تغييرا يذكر على مختلف الأصعدة منذ حقبة ناصر إلى حقبة نصر الله، ولا غرابة في أن يكون اسم (ناصر) لا يحمل إيحاءات دينية وكأنه جاء ليرمز إلى خصوصية تلك المرحلة، وذلك خلاف اسم (نصر الله) واسم حزبه (حزب الله) اللذين يعكسان بقوة فكر الثقافة العربية التي ازدهرت بعد انحسار الفكر القومي سياسيا، وبقائه ثقافيا ليساهم في حقن العرب بمشاعر الإحباط والتيئيس التي دأب أتباعه على بثها عبر وسائل الإعلام لاسيما الفضائيات العربية التي أصبحوا نجوما دائمين فيها، لقد خيل إلينا أن حقبة الناصرية والعسكر انتهت، لكن الواقع يشي بتحالف أعداء الأمس وتعاونهم على بث ثقافة أصبحت من أهم العوامل التي ساعدت على تأخر الأمة على مختلف الأصعدة.
لقد سجلت الأنظمة الثورية تراجعاً كبيراً في كثير من المجالات، فتعطلت الصناعة، وتعثرت مشاريع التنمية، وتضاءل دخل الأفراد، ومنيت الأمة بكثير من الكوارث والنكبات؛ نتيجة لتخبط العسكر، وكان من الطبيعي في مناخ كهذا أن يلابس بعض العرب نخبا وعامة، الشعور بالإحباط والعجز والانكسار، فتحول ذلك إلى مشاعر عدائية تجاه الآخرين الذين جعلوهم سبب كل نكباتهم، وفي الوقت نفسه عمدوا إلى تفريغ تلك الشحنات من المشاعر السلبية في كل مناسبة تستدعي التعبير عن مواقفهم، مما يعني أن فشل المشاريع الثورية والقومية عملت على توليد الهزائم والانكسارات وتكريسها في نفوس شعوبها.
أما الفكر الأصولي المنغلق، فقد فاض بمفردات الغزو الفكري، والتآمر العالمي، والحقد الصليبي، والعداء الأبدي للإسلام والمسلمين. واعتمد هذا الخطاب - كما الخطاب القومي- لغة التحريض وشحن المشاعر، إذ هو مسكون أبدا بعقدة العدو المتربص به، وهذا العدو لابدّ أن يكون مختلفا دينا أو مذهبا أو فكرا، لا فرق في هذا بين القريب والبعيد، ويكشف هذا الخطاب الذي تفرزه الجماعات الأصولية العربية، ونموذجها الإخوان المسلمون، وفقهاء العنف، ومروّجو ثقافة الموت، عن أنه خطاب تكفيري دموي خلا من أي فكر تنويري يقوم على طرح رؤى جديدة للخروج من الأزمات التي لما تزل تعصف بالعالم الإسلامي باجتراح حلول تساعد على إنقاذ الأمة من بعض ما أصابها. بل ساعد هذا المناخ على رواج الفتاوى التي أثارت سخرية العالم، وما بين فتوى إرضاع الزميل في العمل حتى فتوى قتل ميكي ماوس، تنامى ماراثون الفتاوى دون أن يعي الأخطار المحدقة بالخطاب الديني المعتدل وما يعانيه الفكر الإسلامي من أزمات. بل أعيدت الأمة بقرار إيديولوجي إلى حقبة الجاهلية الأولى على هيئة مفاهيم متشددة حتى الشيطان على حد تعبير أحدهم لم يعد ذلك الملاك المتمرد العاصي لله، بل صار المرأة العاملة المطالبة بحقوقها والسياسي الديمقراطي والمثقف الليبرالي.
إنّ النخب العربية لم تستطع على مدى خمسة عقود أو تزيد صياغة خطاب شعبي متوازن، يتجه إلى المستقبل ويستدعيه، خطاب لا يوغل في الكراهية، ولا بالماضي المؤطر بنظريات المؤامرة والاستهداف. فظلت الساحتان السياسية والثقافية رهينة لتأثير الغلاة والمتشددين قوميا ودينيا، ففي كلّ أزمة تحيق بالأمة ينبري الجميع للحديث عن سبب ومسبب خارجيين، متجاهلين بكامل وعيهم الأسباب الحقيقية للأزمة، فتتلقى الشعوب ذلك وتسقط في وحل خطاب غير معقلن، خطاب استبدّ بها على مدى عقود فتلبست به.
ظل العالم العربي طوال هذه الحقبة عاجزاً عن إنتاج منظومة ثقافية جديدة، عصياً على مواكبة مقتضيات التقدم بتوليد فكر جديد يساعدهم على كسر السائد وتجاوز الحواجز للدخول إلى العصر مسلحين بأفكاره وتقنياته، بل بقي أسير العادات والتقاليد مستسلماً للأساطير ولنظريات المؤامرة، رافضاً تطوير مناهجه التعليمية التي ما زالت الأكثر تخلفاً وبؤساً.بالنظر إلى تاريخ العرب وتفوقهم العلمي قديما، وأشارت بعض التقارير إلى وجود حوالي 85مليون عاطل عن العمل يمثل منه الشباب ما مقداره 44%، وهو الأسوأ في جميع مناطق العالم دون منازع حسب منظمة العمل الدولية، إذ يخرج التعليم - القائم في معظمه على قضايا وتخصصات نظرية على حساب العلوم والتكنولوجيا - أجيالاً من العاطلين الحاملين شهادات جامعية. وتشير بعض التقارير الخاصة بالتنمية الثقافية في العالم العربي إلى أن معدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز 21.8%، بينما يصل في كل من كوريا الجنوبية إلى 91%، وأستراليا 72%، إسرائيل 58%.
أما أعلى معدل لتعليم الإناث فيبلغ في الإمارات 76%، والبحرين 68%، ولبنان 62%، والسعودية 49%، ومصر 45%، واليمن 25%. وبلغ متوسط نسبة الأساتذة في التعليم العالي إلى عدد الطلاب في العالم العربي، أستاذ جامعي لكل 24طالباً، بينما المعدل العالمي في الدول المتقدمة كاليابان أستاذ جامعي لكل 8طلاب، وأستاذ جامعي لكل 13طالباً، كما في أمريكا. أما المناهج فتشهد قطيعة وبعدا عن لغة العصر. وأما تأليف الكتب فكتاب واحد لكل 12ألف مواطن، بينما في بريطانيا كتاب لكل 500مواطن، وكتاب لكل 900مواطن في ألمانيا. في حين بلغ عدد الكتب التي نشرت في العالم العربي في عام 2007ما مقداره 27809كتب، 65% منها في علوم الدين والآداب والإنسانيات وتمثل كتب العلوم والمعارف المختلفة 15% فقط.
وعلى الصعيد الاقتصادي تذكر إحدى الدراسات أن الدول العربية سجلت جميعها تراجعا اقتصاديا ملحوظا، فأسبانيا مثلا يفوق إنتاجها إنتاج الدول العربية مجتمعة، ويفوق إنتاج كوستاريكا التي لا يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة، إنتاج دولة عربية كبرى كمصر.
لقد اتسع فضاء البغضاء في العالم العربي حين أصبح الكره نزعة وتكوينا نفسيا انشغلوا بها عن العمل لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي. هذه النزعة لا ترى في الغرب إلا عدواً ولا يسرها شيء قدر سرورها بمصائبه، حتى جعل الاستسلام لمشاعر الكره والعداء للغرب، الأمة أسيرة قيم ضيقة تتمسك بها لكي تجد تبريراً لتقاعسها عن التغيير وتطوير أوضاعها السائدة. فالذين يرقصون على أشلاء الأزمات ويبشرون بديمومتها ليسوا سوى مضللين، فالتضليل سلوك يمارسه هؤلاء في غاية الاحتراف شماتة بالآخر المتفوق أصلا، ذلك الذي يستفيد من أزماته فيتعلم منها، لأن الذين يعملون هم وحدهم من يخطئون فيتعلمون من أخطائهم، أما الشامتون فهم الذين لا يفيدون ولا يستفيدون، وما أكثر هؤلاء الذين يظهرون في أزمات الغرب، كتب أحدهم مؤخرا في صحيفة الشرق الأوسط مقالاً جعل عنوانه سقوط أمريكا ليس (أمنية)، ولكنه (قانون العقاب المعجل) قائلاً: إن ما تواجهه أمريكا اليوم من أزمة مالية مركبة وقاصمة، إنما هو نتيجة لأعمال سوء موغلة في الزمن، ولذلك انطبق عليها "من يعمل سوءاً يجزَ به"!! وهذا لا يخرج عن ثقافة الشماتة التي يتقنها بعض العرب جيدا، فالغرب وعلى رأسه أمريكا ليست أحزابا ميليشاوية وديموقراطيتها ليست ديمواقراطية العسكر ونسبة التسعة والتسعين وتسعة من عشرة في المائة، بل هي ديموقراطية قائمة على متانة فكرية وثقافة يتصدرها العقل وقوانين ترعى حقوق الإنسان وحريات الأفراد، لهذا فلا شك أن المنظومة الفكرية والثقافية والنفسية في العالم العربي تشكل أكبر عائق أمامه للخروج من أزماته.
إن العالم كل العالم شرقا وغربا يتغير فيقطع أشواطا بعيدة نحو الانفتاح على الآخر والتسامح والتحاور معه والاستفادة من خبراته ويكفي أن نتأمل تجربة اليابان التي لم تستسلم لمرارة الهزيمة بعد الحرب العالمية الثانية، بل انطلقت نحو فضاء تطوير الذات بمراجعة أخطائها في الحرب وتفرغها لبناء تكنولوجيا أصبحت الرقم الأصعب في العالم، التغيير هو العنوان الأكثر بروزا في هذه المرحلة من عمر الزمن، ولعل أكبر تغيير هو ما حدث في أمريكا منذ أيام بانتخاب رئيس ينحدر من أصول أفريقية رئيسا لأكبر دولة في العالم (رئيس مجلس إدارة الكون حسب تعبير أحد الكتاب المصريين)، عظمة الإنجاز تكمن في كسر التابو والاستجابة لمقتضيات الحداثة، فإن لم تفعل أمريكا ذلك فمن غيرها يقدر عليه، وهي التي تنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وهذا يعني فيما يعني أن العالم بأسره سوف يسير نحو مزيد من الانفتاح والتسامح والحريات (نعم لقد بدأت منذ اليوم أمريكا بالتغيير؛ التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وقدرة أمريكا ومرونتها على التغيير باستمرار هي سرّ بقائها وسر عظمتها، فلا زالت حتى هذه اللحظة تتغير اجتماعياً من خلال آلاف المهاجرين الذي يفدون إليها من كل أصقاع الأرض، وهذا التغيير الاجتماعي كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى فوز أوباما. فالمهاجرون الجدد من أمريكا اللاتينية والعرب والأفارقة والآسيويون وما يطلق عليهم "الأقليات"، هم الذين أحدثوا تغييراً اجتماعياً في أمريكا وانتخبوا أوباما). آن للذين يعلقون أخطاءهم على أمريكا أن يتغيروا، ليتمكنوا من تطوير أنفسهم، فأمريكا ليست كلها سياسة جورج بوش وليست كلها ذلك الرجل المناصر لإسرائيل، كما أن العرب ليسوا كلهم ابن لادن والزرقاوي وغيرهما من مصاصي الدماء والمتطرفين والمتشددين، الأمريكيون قالوا كلمتهم، فماذا عن الأشقياء العرب الخارجون على قانون دولهم والمحرضون والمثبطون من نجوم الفضائيات أصحاب ادفع قبلا. لا أدري ماذا سيقول عبدالباري عطوان وأمثاله من ذوي الخطاب المتشنج، بعد اليوم؟
لأميركا أخطاؤها الكثيرة ولكن لديمقراطيتها دروس وعبر تطوي صفحات التاريخ واحدة تلو الأخرى؛ فما أحرانا بالخروج من الصفحة التي طال مكوثنا فيها - عندما كررنا الأخطاء ولم نكف عن ثقافة اللطم وشق الجيوب - بدراسة الحال الذي صارت إليه الأمة العربية، وتحليل الأحداث والاستفادة من أخطاء الماضي لوضع إستراتيجية عقلانية للاستقرار السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. فالله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهلا غيرنا ما بأنفسنا!!!
د. حسناء القنيعير - الرياض
إن متأمل الراهن العربي لا يكاد يجد فيه تغييرا يذكر على مختلف الأصعدة منذ حقبة ناصر إلى حقبة نصر الله، ولا غرابة في أن يكون اسم (ناصر) لا يحمل إيحاءات دينية وكأنه جاء ليرمز إلى خصوصية تلك المرحلة، وذلك خلاف اسم (نصر الله) واسم حزبه (حزب الله) اللذين يعكسان بقوة فكر الثقافة العربية التي ازدهرت بعد انحسار الفكر القومي سياسيا، وبقائه ثقافيا ليساهم في حقن العرب بمشاعر الإحباط والتيئيس التي دأب أتباعه على بثها عبر وسائل الإعلام لاسيما الفضائيات العربية التي أصبحوا نجوما دائمين فيها، لقد خيل إلينا أن حقبة الناصرية والعسكر انتهت، لكن الواقع يشي بتحالف أعداء الأمس وتعاونهم على بث ثقافة أصبحت من أهم العوامل التي ساعدت على تأخر الأمة على مختلف الأصعدة.
لقد سجلت الأنظمة الثورية تراجعاً كبيراً في كثير من المجالات، فتعطلت الصناعة، وتعثرت مشاريع التنمية، وتضاءل دخل الأفراد، ومنيت الأمة بكثير من الكوارث والنكبات؛ نتيجة لتخبط العسكر، وكان من الطبيعي في مناخ كهذا أن يلابس بعض العرب نخبا وعامة، الشعور بالإحباط والعجز والانكسار، فتحول ذلك إلى مشاعر عدائية تجاه الآخرين الذين جعلوهم سبب كل نكباتهم، وفي الوقت نفسه عمدوا إلى تفريغ تلك الشحنات من المشاعر السلبية في كل مناسبة تستدعي التعبير عن مواقفهم، مما يعني أن فشل المشاريع الثورية والقومية عملت على توليد الهزائم والانكسارات وتكريسها في نفوس شعوبها.
أما الفكر الأصولي المنغلق، فقد فاض بمفردات الغزو الفكري، والتآمر العالمي، والحقد الصليبي، والعداء الأبدي للإسلام والمسلمين. واعتمد هذا الخطاب - كما الخطاب القومي- لغة التحريض وشحن المشاعر، إذ هو مسكون أبدا بعقدة العدو المتربص به، وهذا العدو لابدّ أن يكون مختلفا دينا أو مذهبا أو فكرا، لا فرق في هذا بين القريب والبعيد، ويكشف هذا الخطاب الذي تفرزه الجماعات الأصولية العربية، ونموذجها الإخوان المسلمون، وفقهاء العنف، ومروّجو ثقافة الموت، عن أنه خطاب تكفيري دموي خلا من أي فكر تنويري يقوم على طرح رؤى جديدة للخروج من الأزمات التي لما تزل تعصف بالعالم الإسلامي باجتراح حلول تساعد على إنقاذ الأمة من بعض ما أصابها. بل ساعد هذا المناخ على رواج الفتاوى التي أثارت سخرية العالم، وما بين فتوى إرضاع الزميل في العمل حتى فتوى قتل ميكي ماوس، تنامى ماراثون الفتاوى دون أن يعي الأخطار المحدقة بالخطاب الديني المعتدل وما يعانيه الفكر الإسلامي من أزمات. بل أعيدت الأمة بقرار إيديولوجي إلى حقبة الجاهلية الأولى على هيئة مفاهيم متشددة حتى الشيطان على حد تعبير أحدهم لم يعد ذلك الملاك المتمرد العاصي لله، بل صار المرأة العاملة المطالبة بحقوقها والسياسي الديمقراطي والمثقف الليبرالي.
إنّ النخب العربية لم تستطع على مدى خمسة عقود أو تزيد صياغة خطاب شعبي متوازن، يتجه إلى المستقبل ويستدعيه، خطاب لا يوغل في الكراهية، ولا بالماضي المؤطر بنظريات المؤامرة والاستهداف. فظلت الساحتان السياسية والثقافية رهينة لتأثير الغلاة والمتشددين قوميا ودينيا، ففي كلّ أزمة تحيق بالأمة ينبري الجميع للحديث عن سبب ومسبب خارجيين، متجاهلين بكامل وعيهم الأسباب الحقيقية للأزمة، فتتلقى الشعوب ذلك وتسقط في وحل خطاب غير معقلن، خطاب استبدّ بها على مدى عقود فتلبست به.
ظل العالم العربي طوال هذه الحقبة عاجزاً عن إنتاج منظومة ثقافية جديدة، عصياً على مواكبة مقتضيات التقدم بتوليد فكر جديد يساعدهم على كسر السائد وتجاوز الحواجز للدخول إلى العصر مسلحين بأفكاره وتقنياته، بل بقي أسير العادات والتقاليد مستسلماً للأساطير ولنظريات المؤامرة، رافضاً تطوير مناهجه التعليمية التي ما زالت الأكثر تخلفاً وبؤساً.بالنظر إلى تاريخ العرب وتفوقهم العلمي قديما، وأشارت بعض التقارير إلى وجود حوالي 85مليون عاطل عن العمل يمثل منه الشباب ما مقداره 44%، وهو الأسوأ في جميع مناطق العالم دون منازع حسب منظمة العمل الدولية، إذ يخرج التعليم - القائم في معظمه على قضايا وتخصصات نظرية على حساب العلوم والتكنولوجيا - أجيالاً من العاطلين الحاملين شهادات جامعية. وتشير بعض التقارير الخاصة بالتنمية الثقافية في العالم العربي إلى أن معدل الالتحاق بالتعليم في الدول العربية لا يتجاوز 21.8%، بينما يصل في كل من كوريا الجنوبية إلى 91%، وأستراليا 72%، إسرائيل 58%.
أما أعلى معدل لتعليم الإناث فيبلغ في الإمارات 76%، والبحرين 68%، ولبنان 62%، والسعودية 49%، ومصر 45%، واليمن 25%. وبلغ متوسط نسبة الأساتذة في التعليم العالي إلى عدد الطلاب في العالم العربي، أستاذ جامعي لكل 24طالباً، بينما المعدل العالمي في الدول المتقدمة كاليابان أستاذ جامعي لكل 8طلاب، وأستاذ جامعي لكل 13طالباً، كما في أمريكا. أما المناهج فتشهد قطيعة وبعدا عن لغة العصر. وأما تأليف الكتب فكتاب واحد لكل 12ألف مواطن، بينما في بريطانيا كتاب لكل 500مواطن، وكتاب لكل 900مواطن في ألمانيا. في حين بلغ عدد الكتب التي نشرت في العالم العربي في عام 2007ما مقداره 27809كتب، 65% منها في علوم الدين والآداب والإنسانيات وتمثل كتب العلوم والمعارف المختلفة 15% فقط.
وعلى الصعيد الاقتصادي تذكر إحدى الدراسات أن الدول العربية سجلت جميعها تراجعا اقتصاديا ملحوظا، فأسبانيا مثلا يفوق إنتاجها إنتاج الدول العربية مجتمعة، ويفوق إنتاج كوستاريكا التي لا يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة، إنتاج دولة عربية كبرى كمصر.
لقد اتسع فضاء البغضاء في العالم العربي حين أصبح الكره نزعة وتكوينا نفسيا انشغلوا بها عن العمل لتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي. هذه النزعة لا ترى في الغرب إلا عدواً ولا يسرها شيء قدر سرورها بمصائبه، حتى جعل الاستسلام لمشاعر الكره والعداء للغرب، الأمة أسيرة قيم ضيقة تتمسك بها لكي تجد تبريراً لتقاعسها عن التغيير وتطوير أوضاعها السائدة. فالذين يرقصون على أشلاء الأزمات ويبشرون بديمومتها ليسوا سوى مضللين، فالتضليل سلوك يمارسه هؤلاء في غاية الاحتراف شماتة بالآخر المتفوق أصلا، ذلك الذي يستفيد من أزماته فيتعلم منها، لأن الذين يعملون هم وحدهم من يخطئون فيتعلمون من أخطائهم، أما الشامتون فهم الذين لا يفيدون ولا يستفيدون، وما أكثر هؤلاء الذين يظهرون في أزمات الغرب، كتب أحدهم مؤخرا في صحيفة الشرق الأوسط مقالاً جعل عنوانه سقوط أمريكا ليس (أمنية)، ولكنه (قانون العقاب المعجل) قائلاً: إن ما تواجهه أمريكا اليوم من أزمة مالية مركبة وقاصمة، إنما هو نتيجة لأعمال سوء موغلة في الزمن، ولذلك انطبق عليها "من يعمل سوءاً يجزَ به"!! وهذا لا يخرج عن ثقافة الشماتة التي يتقنها بعض العرب جيدا، فالغرب وعلى رأسه أمريكا ليست أحزابا ميليشاوية وديموقراطيتها ليست ديمواقراطية العسكر ونسبة التسعة والتسعين وتسعة من عشرة في المائة، بل هي ديموقراطية قائمة على متانة فكرية وثقافة يتصدرها العقل وقوانين ترعى حقوق الإنسان وحريات الأفراد، لهذا فلا شك أن المنظومة الفكرية والثقافية والنفسية في العالم العربي تشكل أكبر عائق أمامه للخروج من أزماته.
إن العالم كل العالم شرقا وغربا يتغير فيقطع أشواطا بعيدة نحو الانفتاح على الآخر والتسامح والتحاور معه والاستفادة من خبراته ويكفي أن نتأمل تجربة اليابان التي لم تستسلم لمرارة الهزيمة بعد الحرب العالمية الثانية، بل انطلقت نحو فضاء تطوير الذات بمراجعة أخطائها في الحرب وتفرغها لبناء تكنولوجيا أصبحت الرقم الأصعب في العالم، التغيير هو العنوان الأكثر بروزا في هذه المرحلة من عمر الزمن، ولعل أكبر تغيير هو ما حدث في أمريكا منذ أيام بانتخاب رئيس ينحدر من أصول أفريقية رئيسا لأكبر دولة في العالم (رئيس مجلس إدارة الكون حسب تعبير أحد الكتاب المصريين)، عظمة الإنجاز تكمن في كسر التابو والاستجابة لمقتضيات الحداثة، فإن لم تفعل أمريكا ذلك فمن غيرها يقدر عليه، وهي التي تنادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. وهذا يعني فيما يعني أن العالم بأسره سوف يسير نحو مزيد من الانفتاح والتسامح والحريات (نعم لقد بدأت منذ اليوم أمريكا بالتغيير؛ التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وقدرة أمريكا ومرونتها على التغيير باستمرار هي سرّ بقائها وسر عظمتها، فلا زالت حتى هذه اللحظة تتغير اجتماعياً من خلال آلاف المهاجرين الذي يفدون إليها من كل أصقاع الأرض، وهذا التغيير الاجتماعي كان واحداً من الأسباب التي أدت إلى فوز أوباما. فالمهاجرون الجدد من أمريكا اللاتينية والعرب والأفارقة والآسيويون وما يطلق عليهم "الأقليات"، هم الذين أحدثوا تغييراً اجتماعياً في أمريكا وانتخبوا أوباما). آن للذين يعلقون أخطاءهم على أمريكا أن يتغيروا، ليتمكنوا من تطوير أنفسهم، فأمريكا ليست كلها سياسة جورج بوش وليست كلها ذلك الرجل المناصر لإسرائيل، كما أن العرب ليسوا كلهم ابن لادن والزرقاوي وغيرهما من مصاصي الدماء والمتطرفين والمتشددين، الأمريكيون قالوا كلمتهم، فماذا عن الأشقياء العرب الخارجون على قانون دولهم والمحرضون والمثبطون من نجوم الفضائيات أصحاب ادفع قبلا. لا أدري ماذا سيقول عبدالباري عطوان وأمثاله من ذوي الخطاب المتشنج، بعد اليوم؟
لأميركا أخطاؤها الكثيرة ولكن لديمقراطيتها دروس وعبر تطوي صفحات التاريخ واحدة تلو الأخرى؛ فما أحرانا بالخروج من الصفحة التي طال مكوثنا فيها - عندما كررنا الأخطاء ولم نكف عن ثقافة اللطم وشق الجيوب - بدراسة الحال الذي صارت إليه الأمة العربية، وتحليل الأحداث والاستفادة من أخطاء الماضي لوضع إستراتيجية عقلانية للاستقرار السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. فالله سبحانه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهلا غيرنا ما بأنفسنا!!!
Comment