الوله التركي
الوطن
محمد حسن علوان
أحداث (أسطول الحرية) وحصار غزة الأخيرة تذكرني برواية (الوله التركي) للروائي الإسباني أنطونيو غالا التي صدرت عام 1993، وتحكي عن سائحة إسبانية تزور تركيا مع زوجها فتقع في حب مرشدهما السياحي التركيّ، فتقرر أن تهجر زوجها، وتترك بلدها، وتقيم في تركيا إلى الأبد. ولمن فاته أن يقرأ تلك الرواية الجميلة فلا بأس، لأن جولة عابرة في الساحات الإعلامية العربية، سواء الرسمية والإلكترونية، ستضعه في قلب أجواء الرواية، وتجعله يخوض أحداثها كما هي، مع تغيير بسيط في أسماء الأبطال ورموز الحكاية وخلفيات المكان.
من الواضح أن موقف تركيا المنددّ بإسرائيل دغدغ مشاعر العرب وأكسب تركيا عموماً، وحزب العدالة والتنمية خصوصاً، شعبية كبيرة في العالم العربي ستسهم حتماً في دفع العلاقات العربية التركية أميالاً إلى الأمام بعد عقود طويلة من التوتر المتبادل بين العرب وتركيا من جهة، والتحالف المتصاعد بين تركيا وإسرائيل من جهة أخرى. وبرأيي، أن تهبّ تركيا لنجدة غزة هو موقف نبيل، وأن يشجّع العرب هذه البادرة التركيّة موقفٌ نبيلٌ أيضاً. فكلا الموقفين يتكاملان معاً ليجعلا مهمة إسرائيل في حصار غزة أصعب، وموقفها الدوليّ أكثر حرجاً، ويعجّلان بفرج المحاصرين في القطاع قدر المستطاع. وعندما يكون الموقف إنسانياً، وثمة جياع ومرضى وأطفال تحت وطأة المعاناة والقهر، فإن أي بادرة عون أو إغاثة تعدّ مقبولة من أي طرف كان، بغض النظر عن التفسير السياسي أو الموقف التاريخي. تركيا اتخذت موقفاً إيجابياً، والشعوب العربية هتفت لهذا الموقف، ولكن ثمة ما يشير إلى أن الأمر تعدى (الهتاف) ودخل في مرحلة (الوله) نفسها التي عانت منها (ديسي) بطلة رواية أنطونيو غالا الشهيرة، عندما قررت أن تترك كل شيء وراءها، وتندفع للحياة في أحضان مرشدها السياحي التركي، دون أن تفكر في العواقب والظروف ولمجرد أن شخصيته راقت لها أثناء الجولة السياحية القصيرة.
في الشرق الأوسط عموماً، والجزء العربي منه خصوصاً، ثمة فصل بين الموقف الشعبي والموقف السياسي. ما تطالب به الشعوب ربما لا علاقة له بما يقرره الساسة. من هذا المنطلق، فإن مناقشة حادثة (أسطول الحرية) والموقف التركيّ سياسياً ليس هدف هذه المقالة، ففي آخر المطاف، ستأخذ السياسة مساراتها التي يرسمها لها أساطينها. ولكن الموقف الشعبي من الأحداث الأخيرة يستحق التوقف والتحليل والتدبر لفهم المحركات الرئيسة لمواقف الشعوب العربية، وكيف يمكن إذكاؤها وإخمادها، لعل ذلك يقودنا إلى فهم السبب وراء عدم قدرة هذه المواقف الشعبية العربية على التأثير في قرارات بلدانها السياسية. ربما هناك تفسير سياسي. ولكن السؤال هنا: هل كانت مواقفنا الشعبية العربية على مستوى من التنظيم والتخطيط والتوحيد والعقلانية تستحق معها أن تؤخذ في الاعتبار السياسي، أم أن عشوائيتها وعاطفيتها ومزاجيتها هي التي جنت علينا هذا التهميش والتجاهل؟
(ديسي) الإسبانية ظلت تشكو بصمت من برود زوجها الإسباني وعقمه طيلة خمس سنوات. كانت تنتظر (طفلاً) إسبانياً لم يمنحه إياها زوجها مثلما ظلت المواقف الشعبية العربية تنتظر (قراراً) لم يمنحها إياه ساستها. وبالتالي لجأت ديسي إلى عشيقها التركيّ منذ أول إشارة (غزل عاطفي)، مثلما لجأ الكثير من العرب إلى تركيا منذ أول إشارة (موقف سياسي). المرشد السياحي (يمان) سيحقق لديسي حلم الإنجاب والاستقرار، وتركيا تبدّت للعرب وكأنها ستحقق لهم حلم الكرامة الفلسطينية. إن اليأس إذن هو الدافع النفسي وراء قرار (ديسي) بهجر زوجها، مثلما أن اليأس من السياسة العربية هو الذي منح تركيا فرصة التألق على المسرح السياسي للقضية بسبب غياب الأبطال الآخرين. فما بذلته تركيا تجاه القضية حتى الآن يعدّ أقل، نسبياً، من مواقف عربية سابقة، ولكنه أقوى، رمزياً، من كل المواقف العربية السابقة لأنها أولاً تأتي من جهة غير متوقعة، بل ولها تاريخ من عداء العرب ومحالفة إسرائيل، وثانياً لأنها تأتي في الوقت الذي نفضت فيه الشعوب العربية يدها من آخر أمل تجاه القضية الفلسطينية، فكان لا بد من بديل يعلّق عليه الشارع العربي آماله.
لم تنته تلك الرواية كما كانت تحلم (ديسي)، لأن الارتماء على الآخرين بناءً على دوافع عاطفية مباشرة لا يقود عادةً إلى نتائج جيدة. ولو أن (ديسي) تريّثت في علاقتها بيمان، وحاولت أن تدرس شخصيته وخلفيته ونيّاته المبطنة لربما تمكنت من اتخاذ قرار مدروس بخصوص مستقبلها وحياتها. في آخر المطاف، كان من حقها أن تقرر مع أي شخص ترغب أن تكمل حياتها، ومن حق الشعوب العربية أن تتعلق بالرمز الذي تعوّل عليه. المهم ألا تكتشف متأخراً، مثل ديسي، أن يمان لم يحبها لذاتها، وفور أن تغيّرت ظروف تجارة السجاد التي يعمل بها قلب لها ظهر المجنّ، وامتهنها كثيراً حين حاول استغلال جنسيتها الإسبانية لعقد صفقات دولية مشبوهة. انتهت الرواية أخيراً بدماء وانكسارات وخيبات أمل كبيرة لا أعتقد أن الشعوب العربية ستتحمل المزيد منها، وعادت (ديسي) إلى إسبانيا بخفّي حنين.