تقرير بالمر وترسيخ القطيعة
خورشيد دلي
كان من المتوقع -على الأقل حسب إسرائيل- أن يكون تقرير الأمم المتحدة (بالمر) بشأن الهجوم الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية مدخلا لإصلاح العلاقات الإسرائيلية التركية، بعد أن شهدت هذه العلاقات مرحلة من الفتور والتوتر في الفترة الماضية، لكن الذي جرى أن هذه التوقعات لم تكن في محلها، بل على العكس تماما.
فقد فجر التقرير أزمة جديدة بين أنقرة وتل أبيب، في تأكيد جديد على أن مسار العلاقة بين الجانبين يتجه نحو ترسيخ القطيعة في ظل المتغيرات الجارية، وهو مسار يشكل ترجمة حقيقية لوثيقة الأمن القومي التركي الجديدة، التي تعرف بالدستور السري للبلاد.
حيث صنفت هذه الوثيقة -وللمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين الجانبين- إسرائيلَ في خانة العنصر المهدِّد للأمن القومي التركي، في انقلاب لمنظومة الأمن ولمفاهيم العلاقات التركية الإسرائيلية، بعد أن وصفت بالإستراتيجية طوال أكثر من نصف قرن.
تقرير بالمر والأزمة الجديدة
لم تنتظر أنقرة طويلا صدور التقرير النهائي من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، فما إن نشرت صحيفة نيوريوك تايمز مسودة التقرير حتى خرج وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ليعلن، وبلهجة غاضبة خلال مؤتمر صحفي، عن طرد السفير الإسرائيلي غابي ليفي من أنقرة، واتخاذ سلسلة إجراءات عقابية ضد تل أبيب، في إطار تطبيق (الخطة ب) التي هددت أنقرة مرارا بتطبيقها ما لم تعتذر إسرائيل رسميا لها عن مقتل تسعة ناشطين أتراك، كانوا على متن سفينة "مافي مرمرة" التركية، أثناء إبحار أسطول الحرية إلى غزة .
وقد جاء الموقف التركي الغاضب هذا بعد تأجيل الأمم المتحدة نشر تقرير بالمر للمرة الثالثة، حيث كانت تجري مفاوضات وجهود على أكثر من مستوى وصعيد ليكون التقرير مدخلا لتطبيع العلاقات بين الجانبين، لكن يبدو أن تركيا باتت مقتنعة -بعد التأجيل المتكرر- أن إسرائيل ليست بصدد الاعتذار لها، وأنها في كل سلوكها تراوغ لتمرير الوقت، وهي في العمق تراهن على الدور الأميركي لإقناع أنقرة بالاكتفاء بتقديم نوع من الأسف لها، وتقديم تعويضات لأهالي الضحايا لا أكثر.
"
تدرك حكومة حزب العدالة والتنمية أن قبولها للأسف الإسرائيلي وتعويض الضحايا دون الاعتذار سيكون ضربة كبيرة لمصداقيتها في الداخل ولدورها المتصاعد في الخارج
"
فيما تدرك حكومة حزب العدالة والتنمية أن مثل هذا الأمر إن حصل فسيكون ضربة كبيرة لمصداقيتها في الداخل، ولدورها المتصاعد في الخارج على وقع يوميات الربيع العربي.
وعليه رفضت تركيا طلبا إسرائيليا بتأجيل التقرير 6 أشهر إضافية، وعندما تدخلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للغاية نفسها وافقت أنقرة على التأجيل لمدة شهر فقط، شرط أن يكون التأجيل نهائيا.
الآن وبعد كل ما حصل، فإن الخطة التركية (ب) دخلت حيز التنفيذ، وهي تتضمن سلسلة خطوات عقابية متتالية ضد تل أبيب، لعل أهمها:
1- تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين من مستوى السفير إلى درجة السكرتير الثاني.
2- تجميد كافة الصفقات العسكرية بين الجانبين.
3- تفعيل المسار القانوني لدعم مطالب أهالي الضحايا الأتراك، من خلال التوجه إلى المحاكم المحلية والدولية لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين عن الاعتداء.
4- اتخاذ خطوات بشأن حرية الملاحة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد تؤدي خطوات في المياه الإقليمية إلى تفجر مشكلات كبيرة مع إسرائيل المتلهفة إلى الاستفادة من الثروات النفطية المكتشفة حديثا.
5- الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، للحصول على قرار دولي بعدم
شرعية الحصار الإسرائيلي المفروض على
قطاع غزة.
انهيار منظومات العلاقات
في الواقع، لا يمكن النظر إلى القرارات التركية الأخيرة، ولا سيما طرد السفير الإسرائيلي والذهاب إلى محكمة العدل الدولية، على أنها مجرد أزمة جديدة من نوع ما جرى بين رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في دافوس، أو حتى من نوع إهانة إسرائيل للسفير التركي في تل أبيب قبل نحو عام.
وإنما جاءت هذه القرارات تعبيرا عن اقتراب هذه العلاقة من لحظة الانهيار الإستراتيجي، بفعل تراكم الأزمات وتناقض السياسات وتداعيات المتغيرات الجارية مع تواصل ثورات الربيع، ولا سيما المناخ الجديد في العلاقات المصرية الإسرائيلية، والمصرية التركية، فما جرى يؤكد جملة من الوقائع التي ينبغي التوقف عندها:
1- خطأ الرهان الإسرائيلي على الحليف الأميركي في الضغط على أنقرة لتطبيع العلاقات، فتركيا أردوغان لم تعد تركيا السابقة، مجرد دولة تابعة تتحرك في إطار وظيفتها المحددة أطلسيا، بل باتت ترى في نفسها دولة إقليمية مؤثرة تطمح إلى أن تكون مركزية في المنطقة.
"
من الصعب -إن لم يكن مستحيلا- عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، لا بسبب عدم اعتذار إسرائيل، بل بسبب تغير الظروف والمتغيرات الإقليمية الجارية
"
2- صعوبة -إن لم تكن استحالة- عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، لا بسبب عدم اعتذار إسرائيل عن الهجوم على أسطول الحرية، بل بسبب تغير الظروف والمتغيرات الإقليمية الجارية، التي تبدو تركيا حتى الآن هي المستفيد الإقليمي الأكبر، فيما إسرائيل تبدو الطرف الخاسر بالمقاييس الإستراتيجية للعلاقات والاستقرار والسلام في المنطقة.
3- إن انهيار منظومة العلاقات التركية الإسرائيلية، التي وصفت بالإستراتيجية، له علاقة بالتوجهات الجديدة للسياسة التركية تجاه المنطقة العربية والإسلامية، وقدرة هذه السياسة على بناء مصالح وتحالفات جديدة، وسط إحساس بفائض القوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، كل ذلك يعزز من دور تركيا في المنطقة، فيما تجد إسرائيل نفسها معزولة تدريجيا خاصة بعد خسارة حليفتها مصر في عهد نظام حسني مبارك.
4- تناقض السياسات والمصالح، فمع تراكم الأزمات من الواضح أن مسار العلاقات بين الجانبين يأخذ شكل الصدام أو الضد، وسط قناعة تركية بأن إسرائيل تقدم الدعم لحزب العمال الكردستاني، علما بأن الطرفين تعاونا في السابق ضده، في المقابل تتهم إسرائيل تركيا بتقديم الدعم لحركة حماس الموصوفة إسرائيليا بـ"الإرهاب"، حيث تعتقد مراكز الأبحاث الإسرائيلية أن حزب العدالة والتنمية التركي هو في التعبير الأيديولوجي إطار متطور لحركة الإخوان المسلمين، وبات يشكل سندا حقيقيا للحركات الإسلامية في المنطقة، لا سيما حركة حماس.
ما أريد قوله هنا، هو أن أزمة العلاقات التركية الإسرائيلية لم تعد مجرد أزمة طارئة تتعلق بهذا الحادث المستجد أو ذاك، بل هي أزمة تعبر عن خلافات جوهرية وتغير في منظومة العلاقات السابقة من جهة، ومن جهة ثانية انتهاء النظرية الإسرائيلية التي تقول بأن تل أبيب هي مفتاح أنقرة لعلاقات جيدة مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، ومن جهة ثالثة فإن تركيا تبدو الطرف الإقليمي الأكثر امتلاكا للأوراق، والمستفيدة من المتغيرات الجارية في إعادة صوغ العلاقات والمعادلات الإقليمية في المنطقة، وبالتالي امتلاك النظرة المستقبلية وكيفية بناء المصالح الإستراتيجية.
القضية الفلسطينية فوق الطاولة
تعد القضية الفلسطينية واحدة من أهم القضايا التي تحدد طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية منذ تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، حيث كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بها عام 1949، وباستثناء التوتر الذي حدث بينهما عام 1981 عندما أعلنت إسرائيل عن ضم القدس الشرقية، فإن ثمة اتفاقا بين الجانبين كان ساريا، عنوانه العمل المشترك في "مكافحة الإرهاب".
وحقيقية، قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 لم تكن تركيا في موقع الدفاع عن القضية الفلسطينية، إلا أنه مع وصوله إلى الحكم حدث تحول تدريجي كبير في هذه السياسة، لا سيما لجهة رفض الاعتداءات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فتركيا في عهد أردوغان وصفت -وللمرة الأولى- سياسة إسرائيل بـ"إرهاب الدولة"، واستقبلت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، وأرسلت القوافل والمساعدات إلى قطاع غزة، وعملت على رفع الحصار عنه، وتحولت إلى طرف أساسي في توحيد صفوف الفلسطينيين. وقد أدى كل ذلك إلى أزمات متراكمة في العلاقات مع إسرائيل، وغياب تدريجي للثقة بينهما.
الآن وبعد الأزمة الناتجة عن تقرير بالمر تبدو الأمور تسير نحو المزيد من التصعيد في ظل الخطوات التركية المنتظرة، التي تتمثل في ثلاثة محاور أساسية على صعيد القضية الفلسطينية:
الأول: الحديث عن أن أردوغان طلب من الخارجية التركية إعداد الترتيبات اللازمة لزيارة يقوم بها إلى غزة، أثناء زيارته المقررة إلى مصر في شهر سبتمبر/أيلول الجاري.
ويبدو أن هذه زيارة تحتل قيمة خاصة وشخصية لدى أردوغان، الذي هو أقرب إلى شخصية الفاتح، فهو في طبيعته وتطلعاته يأمل بتحقيق الأمجاد التاريخية والمصالح الإستراتيجية، ولعل من شأن زيارة غزة تحقيق مثل هذا الأمر، وجعلها في سجله الشخصي، بعد أن قارن طويلا بين مصير المدن التركية والمدن الفلسطينية، ولا سيما القدس، في دلالة رمزية بالغة عن أيديولوجيته.
"
القطيعة باتت سمة العلاقة التركية الإسرائيلية في هذه المرحلة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يمنع الصدام بينهما، طالما يتمسك كل طرف بموقفه، ويعتقد أنه يمتلك فائضا من القوة والأوراق لتحقيق أهداف سياسته؟!
"
الثاني: إعلان تركيا عزمها التوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، للحصول على قرار بعدم قانونية وشرعية الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من خمس سنوات.
وهو تعبير عن رفض تركي لما جاء في تقرير بالمر بشأن قانونية حصار غزة، حيث اعتبر الفلسطينيون والعديد من المنظمات القانونية أن استخلاص تقرير بالمر بخصوص غزة يتناقض مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
الثالث: إعلان تركيا دعمها القوي لاستحقاق سبتمبر/أيلول في الأمم المتحدة بشأن الحصول على اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، ونيل الأخيرة العضوية الكاملة في المنظمة الدولية.
ومن شأن هذه الخطوات تعميق الخلافات التركية الإسرائيلية، وصعوبة إصلاح العلاقات بين الجانبين، خاصة أن تقرير بالمر عمق من أزمة الحكومة الإسرائيلية ووضعها بين حدي المقص، فهي لم تعد قادرة على الاعتذار لتركيا بعد كل ما حصل إلا إذا أرادت الانهيار، ومن جهة ثانية لم تعد قادرة على إصلاح العلاقات مع أنقرة، التي بات لسان حالها يقول: لقد فوتت إسرائيل كل الفرص، وقد حان الوقت لتدفع ثمن أفعالها، وإن الربيع العربي كفيل بإلحاق خسارة إستراتيجية بها.
من الواضح، أن القطيعة باتت سمة العلاقة التركية الإسرائيلية في هذه المرحلة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمنع الصدام بينهما، طالما يتمسك كل طرفه بموقفه، ويعتقد أنه يمتلك فائضا من القوة والأوراق لتحقيق أهداف سياسته؟!
المصدر: الجزيرة