Announcement

Collapse
No announcement yet.

تأملات في فزّاعة «المؤامرة» على مصر

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • تأملات في فزّاعة «المؤامرة» على مصر

    محمد شومان - الحياة


    أسباب ثقافية وسياسية واجتماعية كثيرة تقف وراء انتشار التفكير بالمؤامرة بين شعوب العالم، بما في ذلك الشعوب الإسلامية والعربية التي ربما تكون أكثر شعوب العالم استخداماً لآليات التفكير بالمؤامرة، سواء في تفسير ما تعيشه من أحداث وتحولات داخلية أو في محاولات فهم كل ما يدور في العالم من أحداث وتفسيره، والأهم تبرير الإخفاقات الداخلية والهزائم العسكرية، فكل تعثر اقتصادي أو فشل في إدارة الدولة أو تراجع في الخدمات الأساسية، بل وظهور الأنظمة الاستبدادية واستمرارها، كل ذلك راجع إلى مؤامرات خارجية، غربية أو إسرائيلية، وأضيفت إليها أخيراً مؤامرات بعض دول الإقليم.

    ومع بداية ما يعرف بالثورات العربية، قفز التفكير بالمؤامرة لتفسير الانتفاضات المليونية ضد الأنظمة الفاسدة والاستبدادية باعتبارها مؤامرات خارجية ترمي إلى زرع الفتنة والحروب الأهلية وتقسيم (المقسم) الدول العربية، وكلما بدت مظاهر إخفاق أو تعثر الثورات العربية عن تحقيق أهدافها، انتشر التفكير بالمؤامرة واكتسب صدقية أكبر لدى الجماهير والنخب العربية على حد سواء. وفي الحالة المصرية، موضوع هذا المقال، استخدم فشل الدولة في العراق واليمن والحرب الأهلية في سورية وليبيا للبرهان على وجود تلك المؤامرة التي تستهدف الدول والشعوب العربية. في هذا السياق، فإن مصر (الدولة والشعب والجيش) تتعرض لمؤامرات خارجية وإقليمية وداخلية هائلة وغير مسبوقة في تاريخها، لذلك فإن حجم التهديدات يقترب من حالة الحرب، ما يتطلب تماسكاً داخلياً واصطفافاً وطنياً عاماً، يغلّب الأمن على السياسة، والاستقرار وإنقاذ الاقتصاد وجذب الاستثمارات على الديموقراطية وحقوق الإنسان، ووفق آليات التفكير بالمؤامرة، فإن مصر نجحت في مواجهة المؤامرة ونجت من مصير دول الربيع العربي، لكن فصول المؤامرة ضدها مستمرة بقيادة «الإخوان» وجماعات الإرهاب، وتركيا و «حماس» وإيران و «حزب الله»، وأحياناً أميركا والدول الغربية، والمفارقة أن الحكومة المصرية تطالب أميركا وأوروبا بمزيد من الدعم العسكري والاقتصادي!

    من الصعب اتهام الحكم الحالي بالمسؤولية عن إنتاج أوهام التفكير بالمؤامرة وآلياته، فهي حالة عامة منتشرة بين النخب والجماهير قبل ظهور الرئيس السيسي في المشهد السياسي، وربما يكون ظهوره هو أحد تجليات تلك الحالة التي تخاف على أمن مصر واستقرارها، لكن المؤكد أن توظيف المخاطر والأوهام المترتبة على المؤامرة المستمرة وآليات التفكير بالمؤامرة، قد تحول فزاعةً للمصريين من مواجهة مصير مشابه لما يجري في دول الربيع العربي، وبالتالي دفعهم للقبول بأوضاع سياسية واقتصادية تتعارض مع القيم والشعارات الأساسية التي ثاروا من أجلها في 25 كانون الثاني (يناير)، وفي مقدمها عودة القبضة الأمنية والسكوت عن إصلاح الشرطة وأجهزة الدولة، وتراجع المجال العام، ووقوع انتهاكات لحقوق الإنسان واختفاء التنوع والتعدد من الإعلام، وصدور أحكام قاسية في حق عدد من شباب الثورة، مقابل تبرئة حسني مبارك وكل رموز حكمه، ما أدى إلى ابتعاد قطاعات واسعة من الشباب الثوري عن المشاركة السياسية. وبصفة عامة، تراجعت السياسة وتراجع الخطاب النقدي في إطار نظام 30 حزيران (يونيو) الذي لم تتضح معالمه السياسية أو فلسفته الاقتصادية والاجتماعية بشأن الاستثمار وكيفية توزيع عوائد التنمية، وهو ما ظهر جليا في المؤتمر الأخير لدعم مصر في شرم الشيخ، والذي حقق نجاحاً سياسياً واقتصادياً كبيراً.

    الفرضية التي أطرحها هنا أن الرأي العام المصري خضع لتحولات حادة ومتناقضة في مواقفه خلال سنوات الثورة الأربع، تحركها المخاوف والاستقطاب أكثر من التفكير العقلاني المعتمد على المعلومات والآراء والمصالح، التي ادعت وسائل الإعلام والقوى السياسية أنها توفرها للمواطنين، ففي الأسابيع الأولى من الثورة انتشرت فزاعة الفوضى وعدم الاستقرار، وهي الفزاعة التي كان يلوح بها مبارك تحت عنوان «أنا أو الفوضى»، و «أنا أو الإخوان والإرهاب»، وتحققت الفزاعة المباركية الثانية بوصول «الإخوان» الى الحكم وسيطرة الجماعات الإرهابية على سيناء بموافقة ودعم من مرسي وجماعة «الإخوان»، ومع انهيار الدولة في ليبيا وسورية وفشلها في اليمن والعراق طفت على السطح فزاعة انهيار الدولة وتفكيك الجيش، وفزاعة الحرب الأهلية وفزاعة تقسيم مصر وفق مخططات أميركية وإسرائيلية جرى الترويج لها على نطاق واسع في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، مدعومة بخرائط وصور افتراضية! وقناعتي أن كل هذه الفزاعات -بغض النظر عن حقيقتها- هي بعض وجوه التفكير بالمؤامرة التي أعتقد أنها أعلى مراحل التخويف. لقد تحولت المؤامرة إلى إطار عام يجمع كل الفزاعات ومصادر التخويف، وهو إطار سهل الاستخدام ويلقى استجابة واسعة، ولمَ لا؟ لقد تحولت المؤامرة إلى ثقافة شائعة، إذا جاز الوصف، في ظل الشكوك والمخاوف وعدم الاستقرار وتحولات الرأي العام. وتكفي الإشارة هنا إلى البحث الذي قمت به أمس عن عبارة «مؤامرة على مصر» في محرك البحث «غوغل»، والذي أظهر 6.7 ملايين مادة لها علاقة بالموضوع، بينما عبارة «مؤامرة على الدول الإسلامية» أظهر 971 مادة، يليها «مؤامرة على الإسلام» 839 ألف مادة، أما «مؤامرة على الدول العربية» فقد أسفر عن 583 مادة فقط!

    شغف المصريين بالبحث عن المؤامرة على مصر في «غوغل» وغيرها من محركات البحث يكشف عن ثقافة هي أسيرة الخوف والاستسهال في التفكير والتفسير لدى غالبية النخب والجماهير، والأخطر أنها أسيرة عدم الثقة بالنفس والقدرة على العمل المستقل، فالأعداء المتآمرون في الداخل والخارج يحركون الأحداث التي لا نستطيع مقاومتها أو تغييرها، وبالتالي لا بديل من الاستسلام أو المقاومة ولكن في حدود، فنحن دائماً مفعول بنا، وأخطاؤنا وهزائمنا ليست منا بل هي نتاج مؤامرة قوى داخلية وخارجية، والمفارقة أن هؤلاء الأعداء المتآمرين غير محددين، ما يوفر قدراً هائلاً من الإيهام والتخويف المطلوبين دائماً لتفعيل آليات الخوف والاستسلام والقبول الطوعي العام بإجراءات أمنية أو اقتصادية لا تراعي غالبية المواطنين، لكن يتم تصويرها في الخطاب العام كأمور ضرورية لمواجهة المؤامرات الداخلية والخارجية.

    فزاعة المؤامرة وآلياتها تشكل من وجهة نظري تهديداً لنظام 30 يونيو بقدر ما يمكن أن تفيده في مواجهة «الإخوان» والإرهاب، أو اكتساب شعبية موقتة، لأن التفكير بالمؤامرة يتعارض مع فكرة الاعتماد على الذات، ويشكك في قدرة المصريين على الفعل المستقل، كما يهدد المجال العام وحرية الإعلام ويضعف المشاركة السياسية وبالتالي يقلص فرص التحول الديموقراطي.

    ووفق آليات التفكير بالمؤامرة والخوف منها، يعتبر كل مخالف في الرأي أو معارض متآمراً! أو على الأقل يردد أفكاراً مصدرها قوى أجنبية متآمرة، وأخشى أن يتطور الترويج لفكرة المؤامرة التي تستهدف مصر إلى ظهور نوع من الماكارثية الجديدة التي تختلف ولا شك عن ماكارثية أميركا في خمسينات القرن الماضي، لاختلاف السياق التاريخي ولعدم تورط الدولة المصرية في هذه الممارسات شبه الماكارثية والتي صنعتها في مصر برامج إعلامية شعبوية استغلت مناخ ثقافة المؤامرة لصالحها، وغذته بأوهام وأكاذيب جديدة، حيث اتهمت هذه البرامج شباب الثورة وبعض المنتقدين للحكم الجديد وسياساته بالتآمر، والتعاون مع «الإخوان» والعمالة لجهات أجنبية، وفي هذا المناخ تطوع مواطنون بتقديم بلاغات غريبة للشرطة أو رفعوا قضايا ضد بعض الأشخاص والجهات باتهامات تطعن في وطنيتهم. صحيح أن الحكم الجديد وأجهزته لم يتورطوا في تلك الممارسات، لكن يبقى الخوف من تطورها إلى نوع من الماكارثية الفوضوية البعيدة من سلطة التحقيق والقضاء، وعن رغبة الحكم الجديد.


    * كاتب مصري
    الباطل صوته أعلى، وأبواقه اوسع، واكاذيبه لا تعد ولا تحصى، ولا يمكن ان تقف عند حد. فكيف اذا كان بعض ابطاله قد بات في نظر نفسه والعميان من حوله من انصاف آلهة.
Working...
X