هل تعيد أمريكا نظام التجنيد الإجباري؟
تقرير واشنطن - محمد عبد الله كرام
أعادت إلى الأذهان أجواء حرب فيتنام، تصريحات أدلى بها أحد المستشارين العسكريين للرئيس الأمريكي جورج بوش، عن دراسة إمكانية استئناف العمل بنظام التجنيد الإجباري في الجيش الأمريكي. وكان الجنرال داغلاس ليوت Douglas E. Lute قد أعرب في تصريح لإذاعة "أن بي أر" NPR): All Things Considered, (8/ 10/ 2007 أن مسألة إعادة العمل بالتجنيد هي أمر جدير بالتفكير وخيار قائم، نظرا لعدم توافر قوات كافية تحت نظام التجنيد الاختياري أو التطوعي لحشدها بشكل مستمر في الجبهات القتالية في العراق وأفغانستان.
وقد كانت أرقام التجنيد خلال سنة 2005 قد أظهرت أن الجيش الأمريكي أخفق في تجنيد الأعداد العسكرية المطلوبة، وأعزي هذا الإخفاق إلى أسباب عدة من بينها عزوف الكثيرين عن تأدية الخدمة العسكرية في العراق، خصوصا وأن حربا من هذا النوع يصعب الحسم فيها عسكريا وقد خلفت حتى الآن ما يقرب من 4 ألاف قتيل وما يقرب من 30 ألف جريح في صفوف الجيش الأمريكي منذ اجتياح العراق في مارس 2003، حسب مصادر وزارة الدفاع والمنشورة على الانترنت في موقع: (http://icasualties.org/oif/default.aspx) ، هذا الموقع الذي يتولى تعداد ضحايا الحرب.
وحدا ذلك بالبنتاجون إلى خفض معايير الانضمام إلى الجيش، وذلك برفع السن القانونية للتجنيد إلى 39 سنة بدل 35 سنة سابقا، قصد فسح مجال أوسع لانخراط فئات عمرية جديدة في الجيش وتحقيق الأرقام المستهدفة، يضاف إلى ذلك دفع حوافز مالية وعلاوات للمنضمين الجدد قد تصل إلى$25000 دولار، فضلا عن منح الجنسية للمقيمين الشرعيين المتطوعين للخدمة العسكرية. وكذلك نشر الإعلانات للترويج والدعاية للخدمة، حتى أن دور السينما باتت تعرض وصلات اشهارية لاستقطاب المجندين. وقد وصل الأمر إلى أبعد من ذلك إذ تم قبول مجندين ذوي سوابق إجرامية وآخرين دون المستوى التعليمي المفروض سابقا أي المستوى الثانوي.
وقد أثمرت هذه الإجراءات، إذ بينت المعطيات هذه السنة أن أرقام البنتاجون تفيد أن معدل تجنيد القوات عاد إلى المستوى المستهدف خلال هذه منتصف هذه السنة 2007
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد نشر هذه البيانات في موقعها على الانترنت في العاشر من هذا الشهر، مشيرة إلى أن جميع فروع القوات العاملة في الجيش الأمريكي قد حققت أهدافها أو تجاوزتها خلال شهر يوليو من هذه السنة، كما أن قوات الاحتياط أيضا حققت أهدافها أو فاقتها، والاستثناء الوحيد كان في القوات الجوية في الحرس الوطني التي ضمت 787 مجندا وهو أقل من العدد المستهدف 907.
نظام التجنيد الإجباري في الجيش الأمريكي وكيفية إقراره
أن تاريخ التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة يمتد إلى بداية نشأتها، إلا أن أول مبادرة رسمية لإقرار هذا النظام عرفتها فترة حكم الرئيس الأمريكي فرانلكين روزفلت الذي وقع القانون الانتقائي للتسجيل في قوائم الخدمة العسكرية، وأحدث أول وكالة فيدرالية مستقلة
تعنى بشئون نظام التجنيد سنة 1940 . وخلال الفترة ما بين السنوات 1948 حتى 1973 تم تفعيل نظام التجنيد الإجباري في أوقات السلم والحرب على السواء، إلى أن ألغاه الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1973 اثر حرب فيتنام، وتم استعادة نظام التجنيد على قاعدة التطوع المعمول بها حتى اليوم.
يتطلب تفعيل نظام التجنيد الإجباري في الولايات المتحدة إصدار قانون من الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ، بعد أن يتبين أن الجيش الأمريكي يواجه أزمة شح في موارده البشرية لتلبية الاحتياجات السنوية التي أخفق النظام التطوعي في جلبها، وبعد ذلك يعرض القانون على الرئيس الأمريكي ليوقعه ويصبح ساري المفعول.
يلي ذلك إجراء القرعة لتجنيد الإفراد المسجلين في القوائم الانتقائية والذين تتراوح
أعمارهم إجمالا بين21 و25 سنة، بعد ذلك يمر الأشخاص الذين تم انتقائهم بفحوص طبية ونفسية دقيقة تحدد أهليتهم لولوج الخدمة العسكرية أو اعفائهم لأسباب مدرجة في القانون الذي يسنه الكونجرس مبدئيا. وللإشارة هنا، فالنظام المعمول به يفرض على المجندين الجدد الالتحاق بالجيش رسميا بعد انتهاء تدريباتهم خلال مدة لا تتجاوز 193 يوما من تاريخ اشعار التجنيد الإجباري.
استطلاعات الرأي وتأثير مسألة التجنيد على موقف الأمريكيين من الحرب
أجرت مجموعة من المؤسسات الإعلامية الأمريكية من بينها شبكه الأخبار أي بي سي
ABC، وجريدة واشنطن بوست، إضافة إلى بعض الوكالات المتخصصة في استطلاعات الرأي، كمؤسسة غالوب Gallup وأل بي أس أووسLpsos التابعة لوكالة اسوشيتد برس
Associated Press استطلاعات رأي الشعب الأمريكي فيما يتعلق بهذه القضية. وقد تمحورت الأسئلة الموجهة إلى المشاركين حول الإقبال على الخدمة العسكرية وموقفهم من التجنيد الإجباري. وأبرزت نتائج هذه الاستطلاعات أن الغالبية تعارض مسألة إعادة العمل بالتجنيد، ففي معرض إجابتهم على سؤال بهذا الخصوص أعرب 70 بالمائة عن رفضهم، مقابل 27 بالمائة لصالحه، و4 بالمائة بدون رأي. وفي سؤال أخر، هل تنصح أي فرد من عائلتك بالانضمام للجيش؟ كانت الإجابة 52 بالمائة بلا، 41 بالمائة بالإيجاب وبالباقي بالمائة بدون رأي. وعن هل الحرب في العراق ساهمت في الزيادة من صعوبة استقطاب المجندين؟ أفادت إجابة 73 بالمائة بالتأكيد،بينما رأى 25 بالمائة أنها لم تؤثر على استقطاب المجندين للالتحاق بالجيش، والباقي 2 بالمائة بدون رأي.
في استقراء لهذه المعطيات، يمكن أن نستخلص أن الحرب القائمة في العراق قد أثرت بشكل جلي على الشارع الأمريكي ونظرته للخدمة العسكرية. مما يعيد إلى الأذهان أجواء حرب فيتنام، والذاكرة المريرة التي خلفتها هذه الحرب في نفوس الأمريكيين، بسقوط ألاف الضحايا وفرار العديد من المطلوبين للتجنيد إلى كندا وأوروبا لتفادي حشدهم في جبهات القتال والزج بهم في حرب لم يقتنعو بمشروعيتها.
هل أمريكا مقبلة على تفعيل نظام التجنيد الإجباري؟
بقاء القوات الأمريكية في "المستنقع العراقي" الخطر مدة قد تطول بات أمرا واردا، فالمتطوعين من الشباب الأمريكي وحتى ما يدعى "المرتزقة" الذين كانت تغريهم الحوافز والأموال الإضافية، صاروا يمعنون التفكير قبل الإقدام على خطوة الانضمام للجيش. إضافة إلى أن الكثير من العائلات الأمريكية تتمنع من انضمام أبنائها إلى الخدمة العسكرية.
كما أن تعالي بعض الأصوات في الكونجرس بضرورة تعميم عبء الحرب التي تخوضها القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان على عامة الشعب الأمريكي، ولتحقيق هذه الغاية كان النائب الديمقراطي عن ولاية نيويورك تشارلز رانجلCharles Rangel, D-NY
، قد حاول مزار تمرير قانون تفعيل نظام التجنيد، اخر مبادرة له كانت في اقتراح قانون H.R. 393 (2007) Bill، الذي رفض الجمهوريون مناقشته.
وبالنظر إلى وضع الجيش الأمريكي المنهك بسبب عمليات نشر القوات الهائلة وإعادة النشر التي تندرج في إطار ما يسمى بمسئوليات الولايات المتحدة الدولية (اليابان وشبه الجزيرة الكورية وجنوب أسيا وأوروبا).
كلها معطيات قد تتضافر فيما بينها لإعادة طرح التجنيد الإجباري من أجل الاستجابة للحاجيات العسكرية الأمريكية.
وفي الوقت ذاته، يرى مسئولون أمريكيون آخرون أن التجنيد الإجباري أمر مستبعد، نظرا لكون الجيش حقق مستويات التجنيد المستهدفة، وأن الرئيس الأمريكي جورج بوش يعتقد أن جيشا متألفا من المتطوعين يخدم أمريكا بالشكل المطلوب، وليس هناك أي احتمال للعودة إلى نظام القرعة. ويمكن القول هنا أن البنتاجون عمد إلى إبرام عقود مع شركات خاصة لإرسال متطوعين إلى العراق، ومن أهم هذه الشركات يمكن ذكر شركة "بلاك واتر" Blackwater وشركة تايتن Titan وشركة بارسنز Parsons Corporation .
وقد أتت مبادرة إبرام العقود هذه كاستشارة قدمها وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld إلى الرئيس بوش لمواجهة النقص الحاصل في أعداد الملتحقين بالجيش. ومن جانب أخر يمكن القول انه يستعصى على الإدارة الأمريكية إقناع الكونجرس الحالي بمسايرتها في إقرار نظام التجنيد الإجباري إذا اقتضى الأمر ذلك، خصوصا وأن الكونجرس يضم أغلبية ديمقراطية تنادي بجدولة سحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق. وكان بيت غيرن Pete Geren الذي يشغل أحد أعلى المناصب المدنية في الجيش الأمريكي "وزير حرب"، بعد شهر من تعيينه في هذا المنصب يوليو 2007 ، قد صرح بأن أقصى مدة لأي مجند في العراق لن تتعدى 15 شهرا، وأضاف فيما يتعلق بمسألة التجنيد الإجباري، أنه لا تتوفر أية أسباب لإلغاء نظام تطوعي أثبت جدواه منذ 1973 .
ورغم ما سبق ذكره، إلا أن الكثير من الملاحظين الأمريكيين عبروا عن قلقهم اثر سماعهم الشهر الماضي لخطاب الرئيس جورج بوش في ولاية اركنساس، مقارنا حرب العراق بحرب فيتنام، مما قد يثير تساؤلات عدة تفرض التمعن في أوجه الالتقاء بين الحربين، هل هي خطوة من الرئيس بوش لتهيئة الشعب الأمريكي لقبول التجنيد الإجباري؟ إذا استدعت الضرورة، أم أن الامر أبعد من ذلك، حيث نشهد رسميا بدء التلويح بفشل الحرب في العراق.