Announcement

Collapse
No announcement yet.

سقوط المؤسسة الأمريكية

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • سقوط المؤسسة الأمريكية

    سقوط المؤسسة الأمريكية

    فرانسيس فوكوياما - - 08/11/1429هـ

    إلى جانب عدد من الشركات الكبرى في وول ستريت، فإن رؤية معينة من الرأسمالية قد تهاوت. كيف يمكن لنا أن نستعيد الثقة بعلامتنا التجارية؟.
    هنالك انفجار داخلي في أكبر بنوك الولايات المتحدة، وهنالك اختفاء لأكثر من تريليون دولار أمريكي من قيم الأسهم خلال يوم واحد. وتضاف إلى ذلك خطة إنقاذ مالي في الولايات المتحدة بقيمة 700 مليار دولار على حساب دافعي الضرائب، كما أن مدى التدهور الذي شهدته القيم المالية للشركات والمؤسسات الكبرى في وول ستريت لم يسبق له مثيل. غير أنه بينما يتساءل الأمريكيون لماذا أصبح من المتوجب عليهم أن يدفعوا كل هذه المبالغ المالية الهائلة لمنع انفجار الاقتصاد الأمريكي من الداخل، فإن قلة قليلة هي التي تكلف نفسها عناء الدخول في مناقشات حول أمر لا يزال يحمل في طياته مخاطر أشد بخصوص التكلفة الإضافية الهائلة التي تتحملها الولايات المتحدة. والمقصود بهذه التكلفة الهائلة هنا، هو ذلك الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا الانهيار المالي على "العلامة التجارية" للولايات المتحدة.
    الواقع هو أن الأفكار تقع في صميم أهم ما تصدره الولايات المتحدة، حيث إن فكرتين رئيستين أطلقتهما أمريكا، وظلتا مهيمنتين على العالم، وتفكيره، منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حين جرى انتخاب رونالد ريجان كرئيس للولايات المتحدة. وأما الفكرة الأولى، فكانت رؤية معينة للرأسمالية، وهي تلك التي ساقت الحجج المؤيدة لتخفيض الضرائب، والتقليل من التشريعات، وتراجع الدور الذي تقوم به الدولة في الاقتصاد، وذلك كعوامل تؤدي إلى زيادة وتيرة النمو الاقتصادي. وجاءت المبادئ الريجانية لتعكس اتجاه قرن طويل من تأييد زيادة تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية. وأصبحت التشريعات متزايدة التخفيف هي سنة الحياة اليومية، ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة، وإنما كذلك في مختلف أرجاء العالم.
    وأما الفكرة الكبرى الثانية، فمفادها أن الولايات المتحدة هي الدولة التي تعمل على تشجيع الديمقراطية اللبرالية في العالم، تلك الديمقراطية التي كان ينظر إليها، على نطاق واسع، كأفضل مسار ممكن في سبيل تحقيق نظام دولي أوسع انفتاحاً، إضافة إلى أنه يؤدي إلى المزيد من الانتعاش والرخاء. ولم تكن القوة الأمريكية، أو النفوذ الأمريكي، يستندان فقط إلى الدبابات الأمريكية، والدولار الأمريكي، وإنما أكثر من ذلك على أن معظم الناس كانوا يرون في نظام الحكم الأمريكي أسلوباً جذاباً، وكانوا يسعون بصورة جادة إلى إعادة تشكيل تركيب مجتمعاتهم بصورة أقرب إلى تلك الخطوط، وهو ما أطلق عليه عالم السياسة جوزيف ناي، وصف "قوتنا الناعمة".
    الواقع أن من الصعب للغاية فهم المدى الذي وصل إليه تدهور هذه السمات المميزة للغاية للعلامة التجارية التي كانت الولايات المتحدة تمثلها. وخلال السنوات من 2002- 2007، حين كان العالم، على وجه العموم، يمر بفترة غير مسبوقة من الانتعاش الاقتصادي والرخاء واضح المعالم، فإنه كان من السهل للغاية تجاهل ما يقوله أولئك الاشتراكيون في القارة الأوروبية، وأولئك الذين يتبنون التوجهات الشعوبية الغوغائية في قارة أمريكا اللاتينية، بأن النموذج الاقتصادي المتبع في الولايات المتحدة، إنما "هو نظام رأسمالية على طريقة رعاة البقر". وأما في الوقت الراهن، فإن المحرك الدافع لذلك النشاط الاقتصادي المميز على النطاق العالم، أصبح أشبه بالقطار الذي خرج عن سكته الحديدية، إضافة إلى أنه يحمل في طياته عناصر تهديد جرّ بقية أنحاء العالم إلى الحضيض معه. على أن الأمر الأسوأ من كل ذلك، هو أن المجرم في هذه القضية هو النموذج الأمريكي نفسه، حيث إن الولايات المتحدة، حين اتبعت شعارات التخفيف من تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، فإنها أخفقت في إدخال التشريعات الملائمة لمراقبة ومتابعة شؤون القطاع المالي، وبذلك فإنها سمحت لهذا النظام بإحداث درجة عالية من الأذى الذي أصاب بقية فئات المجتمع الأمريكي.
    الحقيقة هي أن الرأسمالية تعرضت، حتى قبل هذه التطورات، إلى عدد من الضربات الموجعة. وحاولت إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش، منذ أن ثبت أن صدام حسين لم يكن يمتلك أي أسلحة دمار شامل، أن تبرر حربها على العراق من خلال ربطها بصورة من أجندة عمل في إطار الحرب على الإرهاب.
    وأصبح كثير من الناس حول العالم ينظرون إلى الخطابات الأمريكية الحماسية المتعلقة بنشر الديمقراطية، على أساس أنها مبرر نحو المزيد من الهيمنة الأمريكية على دول العالم الأخرى.
    إن الخيار الذي نواجهه في الوقت الراهن يتجاوز مجرد عملية الإنقاذ المالي، أو الأمور ذات العلاقة بحملات الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. ويجري اختبار دقيق للعلامة التجارية التي تمثلها الولايات المتحدة، في الوقت الذي تبدو فيه نماذج جديدة تمثلها الصين، أو روسيا، أشد جاذبية من النموذج الأمريكي. وإن استعادة صورتنا، وجاذبية علامتنا التجارية، إنما هو في واقع الأمر تحد بالغ الأهمية، شأنه في ذلك شأن استعادة حالة الاستقرار في القطاع المالي. وقد يتمكن باراك أوباما، وجون ماكين، من جلب عناصر من القوة، وإدخالها في دعم هذه المهمة. غير أن هذا الأمر سيكون بمثابة مشوار شاق الخطوات بالنسبة لأي من المرشحين لمنصب الرئاسة الأمريكية، حيث إنه تحد يمكن أن يستغرق سنوات من العمل. والحقيقة هي أننا لا يمكن أن نبدأ دون أن نتوصل إلى فهم حقيقي للأمور التي لم تكن تسير في الاتجاه الصحيح، وكذلك ما الجوانب الصحيحة في نموذج العمل الأمريكي التي لم يتم تنفيذها بصورة سليمة، وما تلك الجوانب التي تستحق التخلص منها جملةً، وتفصيلاً.
    يعتقد كثير من المعلقين أن الانهيار المالي الذي تشهده المؤسسات الكبرى في وول ستريت، إنما يمثل نهاية للفترة الريجانية. ويبدو أنه ما من شك في أنهم على حق فيما يذهبون إليه في هذا الصدد، حتى لو تمكن المرشح الرئاسي الجمهوري، جون ماكين، من الوصول إلى كرسي الرئاسة الأمريكية في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. ومن المعروف أن الأفكار الكبرى تولد وتبرز خلال الفترات التاريخية الخاصة والمهمة. وقليلون أولئك الذين يستطيعون البقاء على قيد الحياة حين يتغير المضمون بصورة راديكالية ويفسر ذلك التحول المستمر من اليمين إلى اليسار ضمن تعاقب الأجيال. والحقيقة أنه منذ الصفقة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت في الثلاثينيات من القرن الماضي، ونحن نشاهد المزيد من الدور الذي تلعبه الحكومات في توجيه شؤون الاقتصاد.
    كما أن الريجانية، أو التاتشرية، عند الإنجليز، كانت ملائمة للوقت الذي ظهرت فيه. وتبين بحلول السبعينيات أن الدول ذات التدخل الاقتصادي الواسع التي تتصف بدرجة عالية من الممارسات البيروقراطية، أدت إلى نتائج اقتصادية غير موفقة، حيث أصبح الحصول على الخدمة الهاتفية أعلى تكلفة، وأصعب، كما أصبح استخدام الطيران في التنقل والأسفار أمراً شبه حكر ٍ على الأغنياء، ولجأ كثير من الناس إلى وضع أموالهم في البنوك، حيث اكتفوا من خلال ذلك بالحصول على عوائد منتظمة. ويضاف إلى كل ذلك أن المساعدات الأسرية لتلك الأسر ذات الأطفال المعوزين، عملت على تشجيع الكثير من الأسر الفقيرة على عدم العمل. ومن نتائج ذلك بروز ظاهرة تفكك عدد كبير من الأسر. ولذلك جاءت الثورة التي قادها كل من الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، ورئيس وزراء المملكة المتحدة، مارجريت تاتشر، في ذلك الوقت، لتعمل على تسهيل توظيف القوى العاملة، وكذلك التخلص منها، الأمر الذي تسبب في حدوث الكثير من الآلام، نظراً لأن الكثير من الصناعات التقليدية أصبحت أقرب إلى إغلاق أبوابها. غير أن تلك الثورة أرست قواعد ما يصل إلى ثلاثة عقود مستمرة من النمو، إضافة إلى بروز عدد من القطاعات الجديدة، مثل تكنولوجيا المعلومات، والتكنولوجيا الحيوية.
    أما على النطاق الدولي، فإن ثورة ريجان أدت إلى ما يطلق عليه "توافق واشنطن، حيث إن الولايات المتحدة، وكذلك تلك المؤسسات التي تعمل تحت تأثيرها، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، أخذت في دفع الدول النامية نحو المزيد من فتح اقتصاداتها. وعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي يوجهها أصحاب المبادئ الشعبوية، مثل الرئيس الفنزويلي، هو جو شافيز، لتوافق واشنطن، فإن ذلك التوافق عمل على تسهيل الخروج من مشكلات أزمة الديون الطاحنة التي كانت أمريكا اللاتينية ترزح تحت ثقل الأعباء المترتبة عليها في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حين ضربت موجات عالية من التضخم الشديد عدداً من بلدان تلك القارة، مثل الأرجنتين، والبرازيل. وكذلك كانت الحال في الآثار الإيجابية الناجمة عن أجواء المزيد من الانفتاح الاقتصادي التي جعلت كلاً من الصين، والهند، في ظلها، تستطيعان أن تتحولا إلى قوى اقتصادية عالمية كبرى في الوقت الراهن.
    وإذا كان المرء في حاجة إلى مزيد من الأدلة والبراهين، فإن بمقدوره النظر إلى النتائج التي نجمت عن أكبر حالات التدخل الحكومي الموسع في تسيير شؤون الاقتصاد، أي إلى الاقتصادات التي كانت تدار بأسلوب مركزي زمن الاتحاد السوفيتي السابق، والدول الشيوعية الأخرى في العالم. وتبين بحلول سنوات السبعينيات من القرن الماضي أن تلك الدول أصبحت على مسافة بعيدة من التخلف وراء نظيراتها من دول الاقتصاد الحر، في جميع المجالات الاقتصادية تقريباً. وأكد انفجارها الداخلي في أعقاب سقوط جدار برلين أن هذه الدول بالغة الرعاية، والتوسع في ممارسة دور راعي الاقتصاد، بلغت نهايتها التاريخية الحتمية.
    أما في الجانب الآخر من المعادلة، فإننا نجد أن ثورة ريجان، شأنها في ذلك شأن جميع الحركات التي تؤدي إلى تحول، فقدت طريقها لأنها أصبحت في نظر كثير من اتباعها إيديولوجية غير قابلة للمساءلة، بدلاً من أن تكون استجابة عملية في وجه الدولة التي توسع تدخلها في الشؤون الاقتصادية. وكان هنالك مفهومان رئيسان سائدان في ظل الثورة أولهما أن تخفيض الضرائب يمكن أن يؤدي إلى حالة من التمويل الذاتي، والثاني هو أن الأسواق المالية يمكن أن تشرّع لنفسها .
    وكان أصحاب الاتجاه المحافظ محافظين في سلوكهم المالي قبل الثمانينيات من العقد الماضي، أي أنهم لم يكونوا ميالين إلى أن ينفقوا مبالغ تزيد على ما يستطيعون تحصيله من خلال الضرائب. غير أن الثورة الريجانية أدخلت مفهوماً جديداً يقوم على أساس أن المزيد من التخفيضات الضريبية يمكن أن يؤدي إلى مزيد من النمو الاقتصادي، الأمر الذي ينتهي بالحكومات إلى أن تحصل مبالغ مالية أكبر، وبالتالي جمع المزيد من العوائد، وفقاً لما يطلق عليه تعبير "منحنى لافر". غير أن الأمر في الواقع يمكن أن ينتهي إلى حدوث عجز مالي مدمر إذا لم يرافق تخفيض الضرائب تخفيض في مستوى الإنفاق. وهكذا فإن التخفيضات الضريبية التي أدخلها ريجان في الثمانينيات أدت إلى عجز مالي كبير. وأما زيادة الضرائب بصورة موسعة على عهد الرئيس الأمريكي، كلينتون في التسعينيات، فأدت إلى فائض مالي كبير. وجاءت إدارة الرئيس الأمريكي بوش في بداية القرن العشرين، فتسببت في عجز مالي أعلى نتيجة سياستها الجديدة التي عادت إلى تخفيض الضرائب. وجاءت حقيقة كون الاقتصاد الأمريكي نما في عهد الرئيس كلينتون، كما نما في عهد الرئيس ريجان، لتكرس اعتقاد المحافظين بأن التخفيضات الضريبية تعمل على إنعاش النمو الاقتصادي.
    غير أن الأمر الأكثر أهمية من ذلك هو أن العولمة عملت على إخفاء العيوب البارزة في هذا التبرير خلال عدة عقود زمنية. وبدا أن المستثمرين الأجانب راغبون دون حدود في امتلاك الدولارات الأمريكية، وهو الأمر الذي سمح للحكومة الأمريكية بتحمل عجوزات مالية كبرى، بينما تستمر في التمتع بمعدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي. وهو أمر لم يتسن لأي من الدول المتقدمة الأخرى أن تحققه. ولهذا السبب حرص نائب الرئيس، ديك تشيني، على أن يقول للرئيس بوش إن الدرس الاقتصادي المستفاد من فترة الثمانينيات هو أن "العجوزات المالية ليست بتلك المسألة المهمة، أو المؤثرة".
    أما الخاصية الاقتصادية الكبرى الثانية للريجانية فهي تلك العقيدة الراسخة بضرورة استمرار التراجع على صعيد إصدار وتطبيق التشريعات المالية، فكان يقف وراءها، ويدافع عنها تحالف غير مقدس بين المعتقدين بسلامتها، وبين المؤسسات الكبرى في وول ستريت. وأدى هذا التحالف القوي إلى أن أصبحت هذه الفكرة مقبولة حتى من جانب الديمقراطيين كذلك. وجادل دعاة هذه الفكرة، والمؤمنون بها بأن التشريعات المالية القديمة مثل قانون جلاس – ستيجال الذي ولدته ظروف الكساد العظيم، تعمل على حصول حالة من الجمود في الابتكارات المالية، إضافة إلى أنها تؤدي إلى تراجع القوة التنافسية للمؤسسات المالية الأمريكية. وكانوا على حق في هذا التفكير، لولا أن الابتكار المالي أدى إلى تدفق عدد كبير من المنتجات المبتكرة الجديدة، مثل التزامات الديون المضمونة التي تعتبر لب الأزمة المالية الحالية. ويبدو أن بعض الجمهوريين لم يصلوا بعد إلى فهم مقنع لهذه الأمور. والدليل على ذلك هو بديلهم المقترح لخطة الإنقاذ المالي الشامل الذي يتمثل في المزيد من التخفيضات الضريبية على صناديق التحوط.
    المشكلة القائمة هي أن وول ستريت مختلف تماماً عن وادي السيليكون، على سبيل المثال، حيث تكون التشريعات المخففة عاملاً مساعداً لتطور الصناعات بصورة ملحوظة. وتقوم المؤسسات المالية أساساً على الثقة التي لا يمكن أن تتضح إلا إذا أظهرت الحكومات مزيداً من الشفافية، والانضباط إزاء المخاطر التي يمكن أن تتخذها المؤسسات المالية وهي تتعامل بأموال الناس الآخرين. كما أن هذا القطاع مختلف كذلك عن غيره لأن انهيار إحدى المؤسسات المالية لا يقتصر أذاه على حملة أسهمها، والموظفين العاملين فيها، وإنما يمتد كذلك إلى إصابة عدد من الجهات التي ليست لديها علاقة مباشرة بمشكلات تلك المؤسسة . ويطلق الاقتصاديون على ذلك تعبير "الآثار الخارجية السلبية".
    وشهد العقد الماضي إشارات على أن الريجانية ابتعدت كثيراً عن خط سيرها. وكان من بين التحذيرات المبكرة بهذا الخصوص تلك الأزمة المالية الحادة التي ضربت آسيا (1997- 1998). وعملت بلدان مثل تايلاند، وكوريا الجنوبية، اللتين كانتا تتبعان النصائح الأمريكية، وتخضعان لضغوط واشنطن، على فتح وتحرير أسوا رأسمال فيهما في أوائل التسعينيات. وهكذا بدأت كميات كبيرة من الأموال الساخنة في التدفق على هذين الاقتصادين الآسيويين، الأمر الذي أدى إلى إحداث فقاعة من المضاربات، وكانت نتيجته الدخول في أولى مراحل المشكلات المالية. فهل يبدو هذا الأمر مألوفاً؟. وفي ذلك الوقت، استطاعت بلدان مثل الصين، وماليزيا، اللتين لم تأخذا بالنصائح الأمريكية، وحافظتا على إغلاق سوقيهما، أو إيجاد الكثير من التشريعات المالية المتشددة فيهما، أن تحافظا على وضع كانتا فيه أقل انكشافاً أمام الأزمة المالية .
    وأما علامة التحذير الثانية، فهي العجوزات الهيكلية الأمريكية التراكمية. وبدأت الصين، وبلدان أخرى، شراء الدولارات الأمريكية بعد 1997، ضمن استراتيجية متعمدة لتخفيض قيم العملات المحلية، والمحافظة على دوران آلات مصانعها، وحماية ذاتها من الأزمات والصدمات المالية. وجعل ذلك الوضع الأمور متناسبة مع تفكير أمريكا في ظل عقلية ما بعد هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) من عام 2001، حيث استطاعت الولايات المتحدة أن تعمل على المزيد من تخفيض الضرائب، وتمويل اندفاع شديد في الإنفاق الاستهلاكي، ودفع تكاليف حربين مكلفتين للغاية، والتعايش مع عجز مالي في الوقت ذاته. وبحلول 2007، أدى كل ذلك إلى عجز مالي وصل إلى 700 مليار دولار، وكان من الواضح أن الأمور لا يمكن أن تستديم على ذلك، حيث إن الجهات الأجنبية يمكن أن ترى، عاجلاً أم آجلاً أن الولايات المتحدة ليست ذلك المكان العظيم لوضع أموالها فيها. ويظهر تراجع قيمة الدولار الأمريكي أننا بلغنا، بالفعل، تلك المرحلة، وبالتالي فإن ذلك ناقض ما قاله ديك تشيني، أي أن العجوزات أمر مهم ومؤثر.
    وكانت مساوئ تخفيف التشريعات واضحة، حتى على الصعيد المحلي قبل فترة طويلة من انهيار مؤسسات وول ستريت. وشهدت ولاية كاليفورنيا، على سبيل المثال، تصاعداً لولبياً هائلاً في أسعار الكهرباء، بدرجة خارجة عن السيطرة في 2000 و2001، وذلك نتيجة لتخفيف التشريعات في سوق الطاقة في هذه الولاية، حيث كانت شركات مثل إنرون تعمل على استغلال ذلك التراخي التشريعي لصالحها. وانهارت شركة إنرون ذاتها، إضافة إلى عدد آخر من الشركات 2004، لأن المعايير المحاسبية لم تكن تراعى بصورة صحيحة. وارتفعت حدة عدم المساواة في الدخول على مستوى الولايات المتحدة خلال العقد الماضي، لأن نتائج النمو الاقتصادي تم توجيهها بصورة غير ملائمة نحو الفئات الأشد ثراءً، ونحو ذوي التعليم الأعلى بين فئات الشعب الأمريكي، بينما لحق الركود بدخول الطبقات العاملة. وأخيراً جاءت عملية غزو العراق، وضعف استجابة الحكومة الأمريكية لإعصار كاترينا لتكشف المزيد من ضعف العمل من الأعلى نحو الأسفل على صعيد القطاع العام، نتيجة لعقد كامل من نقص رواتب العاملين في هذا القطاع، وقلة الاحترام الموجه لهذه الفئة من الموظفين التي أصبحت أكثر وضوحاً منذ عهد الرئيس ريجان.
    تفيد كل هذه الأمور أنه كان من المفترض أن تنتهي الفترة الريجانية قبل وقت أطول بكثير مما استغرقته. والحقيقة أن عدم زوالها مبكراً يعود جزئياً إلى أن الحزب الديمقراطي فشل في طرح مرشحين أعلى إقناعاً، وأمضى حججاً. كما يعود الأمر في جانب آخر منه إلى أن الولايات المتحدة مختلفة بشدة عن أوروبا، حيث إن الطبقات العاملة، والأدنى تعليماً في تلك القارة، صوتت بصورة يمكن الاعتماد عليها للأحزاب الاشتراكية، والشيوعية، وتلك الأكثر ميلاً نحو الاتجاهات اليسارية، انطلاقاً من المصالح الاقتصادية لتلك الطبقات. وأما على صعيد الولايات المتحدة، فإن هذه الفئات يمكن أن تتأرجح بين اليمين واليسار. وكانت هذه الطبقات ضمن التحالف الديمقراطي العظيم الذي شكله روزفيلت خلال السنوات الصفقة الجديدة، ذلك التحالف الذي مضى أثره في سنوات المجتمع العظيم على عهد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون في الستينيات من القرن الماضي. غير أن هذه الطبقات بدأت في منح أصواتها الانتخابية للحزب الجمهوري الأمريكي خلال سنوات حكم كل من نكسون، وريجان، لتتحول بعد ذلك إلى دعم الرئيس كلنتون في التسعينيات، ولكي تعود مرة أخرى إلى دعم الحزب الجمهوري بزعامة جورج دبليو بوش. وحين تصوت هذه الفئات العاملة لصالح الحزب الجمهوري، فإن ذلك يعود إلى دوافع وأسباب ثقافية تتعلق بالمعتقدات الدينية، أو المشاعر الوطنية، أو القيم الأسرية، أو قوانين السماح بامتلاك الأسلحة، أو بعض القضايا الاقتصادية.
    وسوف تتحكم هذه الفئة من الناخبين بمصير الانتخابات الأمريكية الرئاسية المقبلة في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) من 2008. ويعود ذلك في أغلبه إلى تركز هذه الفئات في ولايات رئيسة مثل أوهايو، وبنسلفانيا. فهل ستميل هذه الفئات إلى ترجيح كفة خريج جامعة هارفرد، باراك أوباما، الذي يعكس بصورة أدق مصالحها الاقتصادية، أو أنها ستتمسك بأناس تعتقد أن بإمكانها التوافق معهم بصورة أقرب، مثل جون ماكين، وسارة بالين؟. وتطلب الأمر أزمة اقتصادية كبرى ضربت الولايات المتحدة في الفترة من 1929-1931، حتى استطاعت إدارة ديمقراطية العودة إلى البيت الأبيض، مرة أخرى. وتفيد أحدث استطلاعات للرأي العام أننا ربما نكون قد وصلنا إلى هذه النقطة خلال آب (أغسطس) من 2008.
    أما المكون الحيوي الآخر للعلامة التجارية الأمريكية، فهو الديمقراطية، ورغبة الولايات المتحدة في دعم الأنظمة الديمقراطية الأخرى في العالم. واستمر هذا النهج المتناسق في السياسة الخارجية التي مارستها الولايات المتحدة خلال القرن الماضي، منذ عصبة الأمم التي كان وراء انشائها، الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون، ومروراً بالحريات الأربعة التي تمسك بها روزفيلت، وصولاً إلى مطالبة رونالد ريجان لميخائيل جورباتشيف بهدم هذا الجدار.
    إن تشجيع الديمقراطية، من خلال الجهود الدبلوماسية، وتقديم العون لمؤسسات المجتمع المدني، ودعم حرية وسائل الإعلام، وما إلى ذلك من وسائل أخرى، لم يكن في يوم من الأيام محل جدل. وأما المشكلة في أيامنا هذه، فإن إدارة الرئيس بوش، من خلال إقحامها للديمقراطية لإقناع كثيرين من الناس بأن الحرب على العراق لها ما يبررها، كشف عن أن الديمقراطية هي غطاء من أجل شن الحروب، والتدخل العسكري، وتغيير أنظمة الحكم. ولم تعمل الفوضى التي حلت بالعراق نتيجة الغزو العسكري الأمريكي له على تحسين صورة الديمقراطية. كما أن الشرق الأوسط، بصفة خاصة، يعتبر بمثابة حقل ألغام لأي إدارة أمريكية، من حيث إن أمريكا تدعم بعض الأنظمة غير الديمقراطية، وترفض التعامل مع جماعات مثل حركة حماس، وحزب الله التي وصلت إلى السلطة عن طريق الانتخابات. ولذلك فإنه لا يتوافر لدينا الكثير من الصدقية حين نروج "لبرنامج عمل الحريات.
    عمل التعذيب الذي مارسته إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش، كذلك على تدمير صورة النموذج الأمريكي بصورة خطيرة للغاية. وأثبت الأمريكيون بعد هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) من 2001 أنهم على استعداد للتخلي عن مبادئ الحماية التي يكفلها الدستور، واستبدالها بإجراءات أمنية. وهكذا فإن عمليات الاعتقال والتعذيب في سجني جوانتنامو، وأبو غريب، حلت محل تمثال الحرية كرمز للولايات المتحدة في عيون كثير من غير الأمريكيين.
    وبغض النظر عمّن سيجلس على كرسي الرئاسة الأمريكية نتيجة للانتخابات المقبلة، فإن تحولاً باتجاه حلقة جديدة من السياسات الأمريكية والعالمية بدأت بالفعل. ومن المتوقع أن يعزز الحزب الديمقراطي الأغلبية التي يتمتع بها في كل من مجلسي النواب، ومجلس الشيوخ. وهنالك الكثير من موجات الغضب المتصاعد إزاء ما يحدث من انهيار مالي في مؤسسات وول ستريت، حيث يمكن أن تنتقل آثار ذلك إلى مين ستريت، حيث الشركات غير المالية. وهنالك بالفعل توافق عريض النطاق على ضرورة إعادة النظر في التشريعات التي تحكم الكثير من جوانب الاقتصاد الأمريكي.
    أما على الصعيد العالمي، فلن تتمتع الولايات المتحدة بتلك المكانة المهيمنة التي عاشتها حتى الوقت الراهن. وهذا أمر أكد عملية الغزو من جانب روسيا لأراضي جمهورية جورجيا في السابع من شهر آب (أغسطس) من 2008. كما ستتقلص قدرات الولايات المتحدة على تشكيل الاقتصاد العالمي من خلال المعاهدات والمواثيق الثنائية، ومؤسسات مشتركة مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إضافة إلى أن مواردنا المالية الخاصة ستشهد حالة من التراجع. ويضاف إلى كل ذلك أن وجهات النظر الأمريكية، وكذلك المشورة والنصائح، بل وحتى المساعدات المالية، ستكون غير مرحب بها كما كان عليه الوضع في السابق.
    من هو المرشح الأقدر والأفضل فيما يتعلق بتحويل شكل العلامة التجارية الأمريكية عالمياً في ظل مثل هذه الظروف؟. إن باراك أوباما، كما هو واضح، يحمل أخف الأعباء الآتية من الماضي القريب، كما أن أسلوبه الخاص بالتعامل الحزبي يتخطى الكثير من الانقسامات السياسية القائمة في أيامنا هذه. وهو يبدو في صلب تحركاته عملياً، وليس صاحب أجندة أيديولوجية. ولكن ميزاته الخاصة في إيجاد حالات من التوافق ستكون عرضة لاختبار قاس حين يتوجب عليه اتخاذ قرارات بالغة الأهمية، تعيد ليس الجمهوريين، بل حتى الديمقراطيين الداخلين في السباق، إلى جادة الصواب. أما عن جون ماكين، فإنه تحدث على طريقه تيدي روزفيلت خلال الأسابيع الأخيرة، حيث أعلن انتقادات شديدة لمؤسسات وول ستريت، وطالب برأس كريس فوكس، رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات. ومن المحتمل أنه الشخص الوحيد الذي يمكنه أن ينقل الحزب الجمهوري إلى فترة ما بعد الرئيس ريجان. غير أن هنالك شعوراً سائداً لدى الناس بأنه لم يحدد أي نوع من الجمهوريين هو، أو ما إذا كانت مبادؤه ستحدد شكل أمريكا الجديدة.
    على الرغم من كل هذه الأمور، فإن بالإمكان استعادة النفوذ الأمريكي في نهاية المطاف. ونظراً إلى أنه من المرجح أن يعاني العالم ككل تراجعا اقتصاديا، فإنه ليس من الواضح بعد ما إذا كان النموذجان الصيني، أو الروسي، سيثبتان أنهما أفضل لهذا العالم من النموذج الأمريكي. وقد استطاعت الولايات المتحدة أن تستعيد قواها بالفعل بعد نكسات كبرى في الثلاثينات،والسبعينيات، من القرن الماضي، وذلك لسبب يعود إلى قدرة نظامنا على التكيف، وكذلك بسبب المرونة الكبرى لدى الشعب الأمريكي.
    ومع ذلك، فإن عودة أخرى تعتمد على قدرتنا على إحداث بعض التغيرات الرئيسة.ولعل أول شيء يتوجب علينا فعله هو التخلص من ذلك القيد الريجاني الشديد إزاء كل من الضرائب، والتشريعات. وتبدو التخفيضات الضريبية أمراً جيداً، ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى تحفيز النمو الاقتصادي، أو تولد عوائد كافية لتمويل نفسها بنفسها. وفي ظل أوضاعنا المالية على المدى الطويل للغاية، فإن على الأمريكيين أن يتولوا تمويل أنفسهم في المستقبل. وإن تخفيف التشريعات، أو عجز الجهات التشريعية عن مسايرة ومتابعة الأسواق التي تشهد تطورات بالغة السرعة، يمكن أن تكون له نتائج مكلفة وخطيرة للغاية، كما شهدنا من خلال تطور أحدات السنوات الأخيرة. وهنالك، إضافة إلى كل ذلك، حاجة شديدة إلى إعادة بناء القطاع العام الأمريكي بصورته الموسعة، حيث شهدت السنوات الأخيرة نقصاً في تمويله، وتراجعاً في عدد الكفاءات المحترفة العاملة فيه ونوعيتها، إضافة إلى الشعور بالإحباط بين موظفيه. ولا بد من منح هذا القطاع العام إحساساً جديداً من الاعتزاز بالنفس. وهنالك مهام معينة لا تستطيع جهة، سوى الحكومات، إنجازها.
    وبينما نتولى هذه التقييمات، تبرز أمامنا مخاطر ذات علاقة بالمبالغة في العلميات التصحيحية. وثبت أن المؤسسات المالية بحاجة إلى رقابة أفضل، ولكن لم يثبت بعد أن هنالك حاجة ماثلة لمثل هذه الدرجة من الرقابة في قطاعات الاقتصاد الأخرى. وتبقى التجارة الحرة محركاً قوياً، ودافعاً لعملية النمو الاقتصادي، إضافة إلى أنها وسيلة فاعلة من وسائل الدبلوماسية الأمريكية. وعلينا أن نقدم دعماً أفضل للعمال الذين يحاولون تكييف ظروفهم مع تطورات الظروف العالمية، بدلاً من مجرد الدفاع عن استمرار وظائفهم الحالية. وإذا لم تكنن التخفيضات الضريبية طريقاً نحو الانتعاش الاقتصادي الفوري، فإن الإنفاق الاجتماعي غير المنضبط لن يكون قادراً على تحقيق ذلك الأمر أيضاً.
    وإن تكاليف عمليات الإنقاذ المالي، والضعف المستمر الذي تشهده قيمة الدولار الأمريكي، يعنيان أن التضخم سيمثل تهديداً خطيراً في المستقبل. وإن من شأن أي سياسة مالية بعيدة عن الشعور بالمسؤولية العمل على زيادة تعقيد وصعوبة المشكلات الاقتصادية القائمة.
    وبينما ستقل أعداد أولئك الناس من غير الأمريكيين الذين سيستمعون إلى نصائحنا، فإن كثيرين من الناس سيحققون منافع واضحة من الاستمرار في تقليد بعض جوانب النموذج الريجاني. ولكن من المؤكد أن تراجع فعالية ومقدار التشريعات المالية ليس ضمن تلك الجوانب التي يمكن الاستفادة من اتباعها. ونلاحظ على مستوى أوروبا القارة أن العمال ما زالوا معتادين على قضاء إجازات طويلة، وأسابيع عمل قليلة الساعات، وضمانات بقاء في الوظائف، إضافة إلى كثير من المزايا الأخرى، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تقليل الإنتاجية لديهم، كما أنه غير قابل للاستدامة من الجانب المالي.
    إن الاستجابة غير الحاسمة للأزمة التي تشهدها مؤسسات وول ستريت في الوقت الراهن تظهر أن أكبر تغيير نحن في حاجة إليه هو في سياساتنا. واستطاعت الثورة الريجانية أن تحطم 50 عاماً من سيطرة الليبراليين، والديمقراطيين، على عملية صنع السياسة في الولايات المتحدة، كما أن تلك الفترة فتحت الأبواب لكثير من المشكلات التي ظهرت في ذلك الوقت. ولكن بمرور الأيام، أصبحت ما كانت تعرف بالأفكار الجديدة مجرد عقائد جامدة، وخالية من المضمون. وتدهورت فاعلية الجدل السياسي بصورة ملحوظة على أيدي أولئك المتعصبين الحزبيين الذين لا يكتفون بالتساؤل حول أفكار غيرهم، ولكنهم يتساءلون حتى عن دوافع خصومهم. ومن شأن ذلك أن يزيد من صعوبة تعديل الحقائق الصعبة التي نواجهها. غير أنه ما زال الاختبار الحقيقي أمام النموذج الأمريكي يتمثل في قدرته على اختراع نفسه مرة أخرى. وإن صنع العلامة التجارية الجيدة ليس كما قال نائب الرئيس مجرد عملية وضع أحمر الشفاه على شفتي خنزير، بل إن الأمر يتعلق بحق امتلاك المنتج المناسب للبيع في المقام الأول. وأمام الديمقراطية الأمريكية واجب واضح في العمل على تحقيق ذلك الأمر.

    *أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة
    الدكتور تركي فيصل الرشيد

    رجل أعمال . استاذ زائر كلية الزراعة في جامعة اريزونا توسان - مقيم في الرياض .
    يمكن متابعته على تويتر
    @TurkiFRasheed

Working...
X