العولمة الأميركية تترنح
عبد الستار قاسم
يبدو أن الآمال الأميركية بعولمة العالم على الطريقة الأميركية تتحول الآن إلى أضغاث أحلام، ويبدو أن كل البرامج الفكرية والثقافية والاقتصادية والعسكرية التي تبنتها أميركا نحو تحقيق تلك الآمال في طريقها نحو التهشم.
لقد تفاءلت أميركا إلى حدّ الوهم واندفعت إلى درجة الهبل، وفكرت بقرونها وعضلاتها أكثر مما استعملت عقلها، ولم تكن قادرة على موازنة الأمور بعقل راجح حكيم، وخرجت عن دائرة الصواب، وفي النهاية لا مفر أمامها إلا دفع الثمن.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والولايات المتحدة تعمل على تكريس نفسها على أنها القوة العظمى في العالم والتي تملك العصا السحرية لنشر السعادة في جميع أنحاء الأرض.
كبح الاتحاد السوفياتي اندفاعها نحو الهيمنة على العالم وزجرها في مواطن عدة، وساعد على هزيمتها في مواطن أخرى، ورغم ذلك ورغم عظمة الاتحاد السوفياتي، فإن أميركا كانت تتبنى سياسات توحي بأنها هي التي تقرر للعالم.
اشرأبت أعناق الأميركيين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأخذوا يتطاولون على العالم بوقاحة، ودون أدنى احترام للشعوب والدول والحكومات. بدأ الأميركيون بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وفرض سياسات دون أخرى، وظن بعضهم أن الأميركيين سيتدخلون غدا في الزيجات فيعملون على حرمان خصومهم من الزواج وتكوين الأسر. بدأت أميركا تتحدث عن العولمة بكل وضوح، وعن السياسات التي تتبناها نحو عولمة العالم.
"
كثفت أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من جهودها لأمركة العالم، وأنشأت آلاف المنظمات غير الحكومية في دول عديدة من أجل بث الفكر والثقافة الأميركيين، وجندت في سبيل ذلك آلاف المثقفين والمفكرين والكتاب في أنحاء العالم وأغدقت عليهم الأموال
"
العولمة الذاتية والعولمة الموضوعية
هناك عولمة موضوعية لا بد أن تفرض نفسها على الشعوب والأمم، وهي متعلقة في الغالب بالاكتشاف العلمي والتطور التقني. فمثلا فرضت السيارة نفسها على العالم، فاستخدامها يتم في كل العالم بنفس الطريقة، وتغذت على وسائل التنقل المختلفة التي سادت في ثقافات مختلفة.. لقد حلت محل الطرق التقليدية، وحيثما ذهب المرء في العالم الآن يجد السيارة تسير على طرق ممهدة، وتساق بنفس الطريقة.
هذا ينطبق على التلفاز والبراد والصاروخ والهاتف النقال.. إلخ. هذه عولمة موضوعية لا يمكن لأمة أن تتجاوزها أو تشيح بوجهها عنها، ولا أن ترفض استعمالها على مدى طويل من الزمن.
أما العولمة الذاتية فهي تلك التي تعمل الولايات المتحدة على ترسيخها، وهي تقوم على إحلال الثقافة والفكر الأميركيين محل الثقافات العالمية المتنوعة، وإعادة تربية العالم بطريقة تنسجم مع النظامين السياسي والاقتصادي الأميركيين وهما الديمقراطية الأميركية والرأسمالية الليبرالية الحديثة.
رأت أميركا أنها هي التي تملك الحقيقة المطلقة دون سواها، وأن نظاميها السياسي والاقتصادي هما الأفضل في العالم، ولن يتم تطوير نظامين أفضل منهما مهما امتد التاريخ مستقبلا.
كثفت أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من جهودها لأمركة العالم، وأنشأت آلاف المنظمات غير الحكومية في دول عديدة من أجل بث الفكر والثقافة الأميركيين، وجندت في سبيل ذلك آلاف المثقفين والمفكرين والكتاب في أنحاء العالم وأغدقت عليهم الأموال.
لقد أقامت هذه المنظمات بهدف التركيز على ثلاثة محاور رئيسية وهي حقوق الإنسان والديمقراطية ومكانة المرأة، وهي كلها محاور جذابة خاصة بالنسبة لشعوب الدول النامية المقموعة.
ظهرت أميركا أمام مئات الملايين على أنها صاحبة القلب الكبير الذي يدافع عن الإنسان وحقوقه في كل مكان، ودفعت المنظمات غير الحكومية التي أنشأتها إلى تكريس هذا الأمر.
أما في المجال الاقتصادي، فاستعملت أميركا قواها الاقتصادية والعسكرية لكي تتبنى الدول الاقتصاد الرأسمالي الحر والتجارة الحرة عبر المحيطات.
بين العراق والقاعدة
كان دخول القوات العراقية للكويت فرصة أميركا "ما بعد الاتحاد السوفياتي" لتثبت زعامتها بلا منازع، إذ ساقت نحو ثلاثين دولة بصورة رمزية -ومن ضمنها دول عربية- إلى قتال القوات العراقية في الكويت.
أسطولها البحري والجوي هما اللذان نفذا الحرب وهما اللذان سيطرا على أرض المعركة، أما القوات الأخرى فكانت في الغالب تتفرج على قزميتها العسكرية أمام العملقة الأميركية، ثم خرجت أميركا من الحرب وهي تتكلم بلغة الأنا، ولم تجد من يتحداها.
صُدمت الولايات المتحدة بعد تفجيرات نيويورك يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 لأن التفجيرات كانت مؤلمة جدا، ولأن مقامها العالي وهيبتها قد مسا بشكل كبير، ولهذا لم تتريث في الرد، وبدأت بحشد القدرات العسكرية لاستعادة هيبتها بأسرع وقت ممكن.
طغت على باكستان التي كانت تؤيد طالبان الأفغانية بسرعة، وأجبرت دولا في آسيا الوسطى على فتح حدودها ومجالها الجوي أمام القوات الأميركية، ووضعت العرب والمسلمين في قفص الاتهام. أما روسيا فالتزمت الابتعاد، واكتفت بإدانة ما حصل في نيويورك.
قامت أميركا بتكرار المشاهد العسكرية التي نفذتها في العراق عام 1991 في أفغانستان، ولكن بكثافة أقل وبجهد عسكري متواضع.
اجتاحت أفغانستان بسهولة، وطردت القاعدة وطالبان من مناطق النفوذ النائية، وسيطرت على كل الأراضي الأفغانية. وظنت أميركا أن الأمور قد استتبت لها مما فتح شهيتها لمزيد من الأعمال العسكرية إقناعا للصديق وللعدو بأنها القوة التي تفوق التحدي.
"
الأزمة الآن تثبت أن أميركا لم تكن على قدر المسؤولية، ولم تتقيد بضوابط مهنية تضمن للسوق المالي داخل أميركا وخارجها الاستقرار والأمان
"
كبوات أميركا
لم يطل أمد الهيمنة الأميركية، وسرعان ما أخذت الجهود الأميركية تصطدم بالصعوبات وتترهل، وبدأ العملاق يكبو، ومن هذه الكبوات المتلاحقة:
أولا- العراق: لم تسر الأمور وفق ما اشتهت أميركا، وكانت كبوتها الكبيرة في العراق. ربما لم تكن أفغانستان الدولة التي يمكن أن تكون مثلا يتعظ به من قبل دول العالم لأنها كانت دولة ضعيفة وذات إمكانيات عسكرية محدودة.
أرادت أميركا أن يكون العراق فريستها الدسمة التي تعتبر هزيمتها درسا قاسيا لكل من تسول له نفسه تحدي الزعامة الأميركية. لكن القوات الأميركية لم تستقبل بالورود من قبل العراقيين، وفورا بعد احتلال بغداد نشطت المقاومة العراقية لتحول النزهة العسكرية المتوقعة إلى كابوس مرير.
انقلبت الأمور في العراق، وتورطت أميركا بالأوحال، وتحول إعلان الرئيس الأميركي عن انتصاره في العراق إلى مادة للتندر والاستهزاء حتى داخل الولايات المتحدة.
لقد أحبطت الآمال الأميركية، وها هي قد مرت سنوات عدة حتى الآن، وأميركا لا تجد وسيلة للخروج المشرف من العراق. وربما يكون التطور الكبير في هذا الصدد أن تنظيم القاعدة قد انتعش في العراق، وشكل جناحا هاما من أجنحة المقاومة التي حولت الأسطورة العسكرية الأميركية إلى مجرد قوة احتلال غاشمة. وبدل أن تقع القاعدة بيد أميركا، وقعت أميركا تحت وطأة القاعدة.
ثانيا- فلسطين: وجدت أميركا نفسها دولة تناهض الديمقراطية بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، ورفضت أميركا الاعتراف بنتائج الانتخابات وقررت حصار حماس من أجل إسقاطها.
ارتضت أميركا لنفسها التدخل ضد الديمقراطية، وأتت برئيس وزراء فلسطيني وفق رغباتها، وبهذا أسقطت أميركا كل حججها بخصوص الديمقراطية، وبات واضحا أنها تسعى إلى إقامة ديمقراطية تتناسب نتائجها فقط مع مصالحها هي لا مع المبادئ المعلنة للديمقراطية الأميركية.
كان في هذا ما يؤكد ذاتية الولايات المتحدة، وحرصها على مصالحها على حساب المبادئ التي حاولت تسويقها لدى شعوب الأرض.
ثالثا- أفغانستان: فوجئت أميركا كما فوجئ العالم بنهوض حركة طالبان الأفغانية من بين الركام، وتنفيذها برنامج مقاومة فعالا وقويا انتشر على كل الأراضي الأفغانية.
أصبحت طالبان أفغانستان على درجة من القوة بحيث حولت الانتصار الأميركي السريع عليها عام 2001/2002 إلى نوع من الندم يعبر عنه شركاء أميركا في الحرب.
تسيطر طالبان حتى الآن على جزء كبير من الأراضي الأفغانية، وتنفذ عمليات عسكرية قوية ضد قوات التحالف الدولية بصورة شبه يومية، ووصل الأمر إلى أن الرئيس الأفغاني طلب من دول عربية التوسط لدى طالبان للبحث معه في مستقبل البلاد.
رابعا- باكستان: كان من المفروض أن تبقى باكستان أرضا آمنة تنطلق منها القوات الأميركية والمتحالفة معها لمواجهة طالبان وملاحقة الشيخ أسامة بن لادن، لكنها أصبحت بؤرة جديدة لمقاومة القوات الأميركية والحكومة الباكستانية الموالية لواشنطن.
تم إنشاء طالبان باكستان، وتم انتشار القاعدة بسرعة على الأراضي الباكستانية، وأصبحت الآن باكستان مسرحا لعمليات دموية من أشكال مختلفة، وأصبحت الحكومة مهددة.
خامسا- إيران: زمجرت أميركا وأرعدت ضد إيران وبرنامجها النووي، وهددت بالقصف والعمليات العسكرية الواسعة، لكن إيران لم ترمش لها عين، واستمرت في تحديها للإرادة الأميركية، ويبدو أن أميركا قد أيقنت أن إيران قد خرجت من العقال، وأنه ليس من الحكمة الاستمرار في التهديد.
سادسا- حزب الله: أصيبت أميركا وإسرائيل بضربة قوية في يوليو/تموز 2006 عندما فشلت إسرائيل في تحقيق أي هدف من أهدافها عبر الحرب، وتكبدت خسائر فادحة.
أصابت الحرب هيبة كل من أميركا وإسرائيل، ووجدت الدولتان أن عصر الترهيب وركوع الأمم السريع أمام ضرباتهما لم يعد قائما، وأصيبت أميركا ومعها حلفاؤها العرب بالذهول عندما سيطر حزب الله على بيروت فجأة يوم 7 مايو/أيار 2008 دون أن تقوى الفئات الأخرى الموالية لأميركا على فعل شيء.
حزب الله أجبر أميركا وإسرائيل على التفكير مليا في التطورات العسكرية والتقنية الجديدة لإيران، وأصبحتا تدركان أن ميزان القوى الإقليمي قد تغير، وأنه لا توجد معادلة سحرية للعودة إلى سابق العهد.
والسؤال الذي خيم على الرؤوس هو: ماذا يمكن أن يكون لدى إيران من قدرات عسكرية إذا كان حزب الله يملك كل هذه القدرات التسليحية والتكتيكية؟
سابعا- روسيا وجورجيا: ربما أراد الأميركيون اختبار قوة ونوايا موسكو عندما قامت جورجيا بحركتها العسكرية ضد أوسيتيا، فقام الروس في وضح النهار بدك رأس جورجيا، واستعرضوا قواتهم وأصدروا تهديداتهم، ووقف الأميركيون يدينون ويشجبون.
كانت جورجيا درسا قاسيا للأميركيين فتح الباب أمام التحدي الروسي الواضح إلى درجة التلويح باستعمال القوة النووية ضد بولندا إن هي استمرت في خططها لنشر الصواريخ الأميركية على أراضيها.
لقد فتحت أميركا على نفسها بابا وضعها في موقف حرج أمام نفسها وأمام حلفائها الأوروبيين الذين باتوا يشعرون بأن القيادة الأميركية تستخدمهم وتورطهم.
"
فكرة العولمة الذاتية الأميركية لن تقوم من مقتلها، وقد ولت إلى الأبد، وستنمو الآن فكرة العالمية مكان العولمة التي تعني الاعتراف بمختلف الثقافات العالمية وانفتاحها على بعضها للتأثير المتبادل
"
ثامنا- الأزمة المالية: يبدو أن الأزمة المالية التي يشهدها العالم حاليا عبارة عن قاصمة الظهر بالنسبة للعولمة الأميركية. لقد ترنحت أميركا تحت وطأة المتغيرات خاصة في المنطقة العربية الإسلامية (المسماة الشرق الأوسط)، لكن الأزمة المالية القائمة حاليا أوسعت مكان دفن العولمة الذاتية التي كانت أميركا تأمل السيطرة على العالم من خلالها.
ويمكن تلخيص آثار هذه الأزمة على أميركا بالتالي:
1- تشير الأزمة وربما الانهيار إلى فشل إدارة الولايات المتحدة للشؤون المالية العالمية، وإلى أنها كانت الإداري الفاشل الذي يحتاج إلى من يأخذ بيده ويدربه.
لقد سطت أميركا بقدراتها المالية الهائلة على العالم، وربطت الأنظمة المالية في أغلب دول العالم بالنظام المالي العالمي، وأنشأت شبكة مالية عالمية مترابطة عبر شبكة معقدة من الاتصالات والقواعد المالية. لكن الأزمة الآن تثبت أن أميركا لم تكن على قدر المسؤولية، ولم تتقيد بضوابط مهنية تضمن للسوق المالي داخل أميركا وخارجها الاستقرار والأمان.
2- تقع أميركا الآن تحت تهمة الجشع من قبل أغلب الدول لأن شركاتها كانت تعمل على تحقيق الربح الوفير والسريع بغض النظر عن الوسائل والأساليب.
فأميركا متهمة بالتدني الأخلاقي، وبتفضيلها المال ولو على حساب القيم الإنسانية التي يجب أن تبتعد عن الاستغلال والاستغفال، فالشركات طماعة وتقبل على جمع المال بكل الطرق الممكنة، والإدارة الأميركية متهمة بالتساوق مع هذه الأخلاق المتدنية.
كانت أميركا تدعي أنها هي القيادة الأخلاقية المثلى في العالم وأنها هي التي تعمل على ترسيخ القيم الأخلاقية فيه، ولكن أغلب الدول الآن تتحدى هذا الادعاء علنا.
3- هناك الآن تخبط في الرأسمالية، وواضح أن فكرة الرأسمالية الليبرالية الحديثة التي روجت لها أميركا على مدى سنوات، ستدفع الثمن.
فأميركا أكدت باستمرار أن النظام الرأسمالي الليبرالي الحديث الذي يقوم على مبدأ قوانين السوق وعلى تحرير التجارة العالمية وفتح الأسواق أمام المنافسات هو الأمثل للعالم، وهو نظام نهائي لن يخلفه نظام اقتصادي آخر أفضل منه في المستقبل، وأن على دول العالم أن تتبناه كحقيقة مطلقة لا شائبة حولها.
هذا النظام لم يصمد عقدين من الزمن، وسرعان ما ثبت أن الجدلية الأميركية لا تعبر إلا عن رغبة أميركا في السيطرة والاستحواذ.
4- لأميركا أصدقاء ساروا معها في سياساتها الدولية -خاصة سياساتها الحربية- ووقفوا معها في حربها على الإرهاب والدول المتهمة بإيوائه، منهم من سار معها على مضض، ومنهم من كان ينتظر هزيمتها في العراق وتورطها في أفغانستان لأنهم وجدوا في سياساتها خطرا عليهم.
دول مثل فرنسا وألمانيا كانت تحس خطرا لأن العولمة الأميركية تمتد بمخالبها إلى ثقافاتهما، لكن الصامت على مضض لا بد أن يجد فرصة في يوم ما، وها هي الدول الأوروبية تتحدث صراحة عن فشل الزعامة الأميركية.
بالتأكيد ستتعلم أميركا جزئيا من الدروس القاسية، وإن لم تفعل فإن غيرها من الذين كانوا يوافقونها في مختلف سياساتها سيتعلمون، ولن يرخوا إرادتهم السياسية لأميركا كيفما تشاء.
لن تعود الأوضاع إلى سابق عهدها، ولن تستمر أميركا في مغامراتها العسكرية والمالية والاقتصادية، ولن تكسر رقاب الدول من أجل الخصخصة الاقتصادية وإبعاد الحكومات عن التدخل في الأمور الاقتصادية، ولن تبقى هي سيدة النظام المالي العالمي.
لكن الأهم أن فكرة العولمة الذاتية الأميركية لن تقوم من مقتلها، لقد ولت إلى الأبد، وستنمو الآن فكرة العالمية مكان العولمة التي تعني الاعتراف بمختلف الثقافات العالمية وانفتاحها على بعضها للتأثير المتبادل.
فبدل السعي نحو السيطرة التفردية الأميركية، سيظهر العالم في ظل العالمية أكثر قدرة على التفاهم المتبادل والتعاون لما فيه خير الجميع.
__________________
كاتب فلسطيني
المصدر: الجزيرة