لماذا نجح "ماكدونالدز" وفشل الجيش الأمريكي؟
الوطن
ياسر سعيد حارب
اجتمعت قبل أيام مع وفد من إحدى الجامعات الأمريكية العريقة الذين استعرضوا تجربة قامت بها الجامعة مع الحكومة الصينية، تفضي إلى تعليم الأمريكيين اللغة الصينية. حيث قامت الجامعة بالتعاون مع الحكومة الصينية بتصميم برنامج متكامل يحتوي على برامج وثائقية تتحدث عن الثقافة وبعض العادات والتقاليد الصينية، بالإضافة إلى الحديث عن تاريخ الصين ومعتقدات شعبها. ويحتوي البرنامج أيضاً على لعبة لتعليم اللغة الصينية، حيث يمكن للراغبين أن يلعبوها على الإنترنت، إلى جانب العديد من الألعاب الأخرى التي تصب جميعها في تعريف الشخص الأمريكي البسيط بالثقافة واللغة الصينية، ولكن بطريقة حديثة ومطوّرة.
ثم استعرض الوفد تجربة قامت بها الجامعة لجعل موادها العلمية متوفرة لأي شخص وفي أي وقت من خلال عرض مجموعة من المحاضرات على الإنترنت مجاناً. حيث يمكن لأي شخص في العالم أن يدخل إلى موقع الجامعة الإلكتروني ويقوم بتنزيل أي محاضرة يريد، وخصوصاً المحاضرات التي يلقيها الأساتذة الخبراء والمعروفون عالمياً بتفردهم في حقول العلم، كل على حدة.
سألت أعضاء الوفد عن سبب استثمارهم كل هذه الأموال لتعليم الشعب الأمريكي اللغة الصينية، فقال لي أحدهم:"لأننا نعتقد بأن الصينية هي لغة المستقبل، وإن لم نبدأ بتعليم الأمريكيين هذه اللغة اليوم، فقد نصل غداً إلى مرحلة لا يمكننا خلالها أن نساهم في الثقافة العالمية كما هو حالنا اليوم. نريد أن نستبق الأحداث ونكون جاهزين عندما تغزو هذه الثقافة العالم، حتى لا نصبح في ذيل القائمة". ثم سألتهم عن سبب سماحهم لأي شخص للاطلاع على محاضراتهم التي تعد المنتج الأساسي لهم، فقال آخر:"نريد للجميع أن يقولوا بأنهم تعلّموا في جامعتنا، حتى وإن لم يدرسوا بها. ويكفي أن يشعروا بفضل جامعتنا عليهم في إثراء معرفتهم... وهذا بالتأكيد سيعزز اسم الجامعة، وسيعزز اسم أمريكا لدى الناس".
تذكرت عندها أن سنغافورة قد بدأت قبل عقد من الزمن بمنح مجموعة من الطلبة الصينيين الذين يتوسمون فيهم الخير، بعثات دراسية إلى جامعة سنغافورة الوطنية، وبعد عدة سنوات ارتقى بعض هؤلاء الطلبة في سلّم السلطة حتى وصلوا إلى درجة وزير في الحكومة الصينية. عندها فقط، بدأت العلاقات بين سنغافورة والصين بالنمو المطّرد لصالح الأولى، واستطاعت سنغافورة أن يكون لها موطئ قدم في المجالات التقنية والتجارية في إحدى أسرع الدول نمواً في العالم. حيث ظل هؤلاء الوزراء يدينون بالمعروف للسنغافوريين، ناهيك عن حملهم لفكرهم ولثقافتهم - المدنية وليست الثقافة الاجتماعية - مما أعطى السنغافوريين موطئ قدمٍ في الصين، وحظيت، من بين دول منظمة الآسيان، بالمرتبة الأولى في حجم التبادل التجاري مع الصين.
عندما يصل أحدنا إلى مدينة يزورها لأوّل مرة فإنه يبحث غالباً عن أول مطعم "ماكدونالدز" ليأكل به. بل إنه يذهب إلى أي سوق وهو مقتنع تماماً بأن ماكدونالدز سيكون موجوداً هناك. وما إن يضع أول رِجْل في المطعم ويشمّ رائحة الأكل، حتى يشعر وكأنه في "سفارة الطعام العالمية". هو نفس الشعور الذي يساور الغريب عندما تطأ قدمه سفارة بلده في بلد غريب، ويا للغرابة. لقد استطاعت مطاعم ماكدونالدز أن تشكّل لها ثقافة خاصة توصف بأنها ثقافة أمريكية، بل إن الثقافة الأمريكية، في بعض الأحيان، توصف بأنها ثقافة ماكدونالدز. ففي الداخل، نجد نفس اللوحات الإرشادية، ونفس الألوان، ونفس الطعام بالطبع.. بل ونفس الرائحة. وعندما نأكل في أي فرع من فروع ماكدونالدز في العالم، فإننا نجلس نفس الجلسة، ويراودنا نفس الشعور الذي يراود غيرنا من الناس... أو بالأصح، نفس الشعور الذي يراود أي أمريكي. حيث يقول مؤلف كتاب "أمّة الوجبات السريعة" بأننا عندما نأكل من ماكدونالدز فإننا نأكل مثل الأمريكيين، وعندما نأكل مثل الأمريكيين فإننا نصبح مثلهم. لقد استطاع ماكدونالدز الذي ينتشر في أكثر من 115 بلداً في العالم، ويبيع أكثر من 540 مليون (سندويتش) في السنة، ويستقبل أكثر من (مليار) شخص في العام الواحد، أن ينشر ثقافة أمريكا ويحقق أهدافها التوسعية أكثر مما استطاع الجيش الأمريكي فعله. وليس بالضرورة أن تكون هذه الثقافة إيجابية، بل على العكس تماماً، حيث غيّر ماكدونالدز مفهوم وجبة الطعام من كونها تجربة عائلية إلى تجربة فردية، ومن حاجة اجتماعية إلى حاجة معيشية وجسمية فقط. واستطاع أيضاً أن يزرع ثقافة السرعة والاستعجال، ليس في الأكل فقط، بل وفي كل شؤون الحياة. فالطعام يجهّز بسرعة، والموظفون يركضون يمنة ويسرة حتى يأتوا به قبل أن يرتد للزبون طرفه، ثم يأخذون النقود بسرعة ويردونها على الزبون بسرعة أيضاً.
على الرغم من كل سلبيات الوجبات السريعة، فإن الناس مازالت تقبل عليها كل يوم، ويتضاعف معتنقو ثقافة الوجبات السريعة ومريدو هذا المذهب السريع في كل ساعة.. في شرق العالم وغربه. فعندما فتح ماكدونالدز أول فرع له في الكويت عام 1994 اصطف أكثر من 15000 زبون على طول 11 كم أمام أبوابه للحصول على وجبة خالية من أية قيمة غذائية، ومليئة بمسببات الأمراض والأوبئة.
يصرف ماكدونالدز سنوياً 18 مليار دولار على عملياته، بينما صرف الجيش الأمريكي منذ بداية غزو العراق وحتى الآن 572 مليار دولار، أي ما يعادل 341 مليون دولار كل يوم أو 240000 دولار في الدقيقة. وفي المقابل، استطاع ماكدونالدز أن يصل إلى معظم سكّان المعمورة بهدوء وبفرحة - على الرغم من أضراره على صحة الإنسان - بينما دمّر الجيش الأمريكي الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي، وشوّه صورة أمريكا أمام العالم وبخسها مصداقيتها أمام الناس... والأسوأ من ذلك، أنه دمّر كل ما بناه ماكدونالدز خلال تلك السنين.
لو أن الحكومة الأمريكية استثمرت في مطاعم الوجبات السريعة لملكت بطون الناس وقلوبهم، ولو أنها استثمرت في الجامعات لملكت عقولهم وأفكارهم. قرأت مقالاً قبل عام للكاتب الأمريكي (ديفيد أغناتيوس) يقول فيه بأن أكبر غلطة وقعت فيها الحكومة الأمريكية أنها شددت على الطلبة العرب التحاقهم بالجامعات الأمريكية. فما يمكن لأمريكا أن تحققه ببعثة دراسية، لا يمكن أن يتحقق بدبابة أو بطائرة حربية.
*كاتب إماراتي