Announcement

Collapse
No announcement yet.

حداثتنا «المستلبة»

Collapse
X
 
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • حداثتنا «المستلبة»

    حداثتنا «المستلبة»


    محمد المزيني - الحياة

    خلال الأسبوعين الماضيين داهمتني شكوك في أن ما أكتبه للقارئ لن يصل بلب المعنى الذي أتقصده وأبتغي من ورائه مشاركة عقلية ووجدانية حتى لو كانت مخالفة أو شانئة، فهذا بحد ذاته نتيجة مثلى لحراك القلم وبعثرات الأوراق بما يشبه الفوضى الخلاقة خشيت - صدقاً - أن أمسي كالصائح في وادٍ سحيق لا يرتدّ إليه إلا صدى صوته محمولاً على أجنحة الخواء، أو كالنافخ في قربة مقطوعة، حتى تداعـــت الردود وعـادت إليّ سكينتي، حامداً أن عروقنا لا تزال تنبض بدماء ساخنة، لم تبردها الديون أو تجمدها دروب المعــيشة الوعرة، هذا بحد ذاته شجعني لمــواصلة الحياة داخل «الحياة»، وسأبـدأ هذا المقال من حيث انتهيت إليه في مقالي السابق، ولكن في سياق موازٍ تماماً للحراك الصحوي - أقول «سياق» قاصداً السياق الزمني - وهنا سأستبدل مفردة الحراك بالتيار لموضوع الحداثة لسبب بسيط: أن الحراك الذي وصفت به الصحوة لا يزال ينبض بالضجيج وفـــق رؤية مؤسسية شاملة، أنجبت عدداً من الأبناء منهم العاقون ومنهم البررة، فتقصي هؤلاء الأبناء الذين خرجوا من رحمها، يحتاج إلى تفصيل ليس هذا أوانه، فما أنتوي الخوض فيه هو مشروع الحداثة الذي بدأ إبان السبعينات معافىً حتى لاحقته العلل وشرخته الظنون، بعدما كان مفعماً بالحيوية التي سخنت أجواءنا، ونوعت من ذائقتنا التعبيرية، وقدمت لنا فلسفة للكون والحياة بلغة تصويرية مختلفة مواكبة حراكاً تفشى بين أواصر الثقافة العربية، اشتغلت في بدايتها عـــلى تفكيك الصورة النمطــية، محترمة عقــل الإنسان وقـــدراته في المشاركة الفاعلة في ما يصله من معنى، كما كونت لديه عقلاً جدلياً يؤمن بأهمية الاختلاف والتنوع وحتى التبدل.

    كان القلق الذي يتبناه الحداثي مثاره ما استقر في وعيه الحديث، الذي كان قبلاً مسلّماً بشكل مطلق لقيومية الأفكار السائدة وطرائق التعبير عنها، وكانت تلك التجربة الحية انعطافاً في مسيرة الإنسان داخل الأمكنة وعبر الأزمنة متعرفاً بشكل واضح وجلي على طبيعة مشاركة الآخر له من دون تحديد لنوع أو جنس.

    الحداثة في بداياتها انفتحت على كل الاحتمالات، رافضة جبرية الفكرة الواحدة وأحادية الصورة المهيمنة على عقل الإنسان، ولإيصال هذه الفكرة أكثر نقول: إن الحداثي سعى في استخدامه لمفردة «التشظي» إلى الانقسام على كل شيء ومع كل شيء بلا تراتبية كهنوتية، فواجهت الحداثة السعودية أزمة حقيقية تختلف عن نظيراتها في بيئات أخرى، وكانت تبعات هذا التوجه ضارية لم يحسب حسابها ابتداء، فقد ابتدرتها الجماعات الصحوية والمحافظة بهجمات شرسة نحّتهم قليلاً عن مواجهة المجتمع المتدين بالفطرة، وقد كانت فرصة مثلى لتجسيدها من خلال القيم الحداثية ذاتية بامتطاء صهوة العناد والتحدي، فهي مثَلها مثَلُ كل المبادئ الحديثة، وتزيد عليها قليلاً بأنها لا تقبل التراجع لإيمانها المطلق بمحدودية الأشياء أمام العقل النابض بفكر يتخطاها إلى رحاب أوسع وأشمل، وقدرتها على التعاطي مع الآخر «بتجزيئية» موضوعية تفرغه من الهواء الساخن الذي لا يحمل وزناً حقيقياً، عدا الصوت الحادث جراء عملية التفريغ. فما كان يُرى صلباً يتبخر كسراب بقيعة.

    وبعد ما جرى لها، ربما دفع استشعار القلق بتيار الحداثة السعودية إلى العزلة الاختيارية، منزوياً داخل فضاء يغرد فيه بعيداً من الوشايات، ومع ذلك لم تسلم الحداثة من تناولها بكل الوسائل والتهم، فالحداثة بحسب وصف أكثر كتاب الحداثة الواعين لمسيرتها «غير آمنة»؛ فهي داخل قوى جذب متصارعة، وهذا بحد ذاته يضمن لها ديمومتها ويخلق لها حيوات متعددة ومتنوعة، وهذا سر تناولها لموضوع الخلق أكثر من كونها إبداعاً. فهي لا تتصارع مع أفكار بقدر ما تتوالد أفكار متناقضة أحياناً ومتقاربة أحياناً أخرى، وهذه اللذة الكامنة في لعبة التغير والتبدل تضمن لها ديمومة سيرورتها.

    بيد أن الأمر أضحى غريباً في حداثتنا السعودية. والسؤال الماثل في عقول الكثير بما يشبه الحيرة هو: هل لملمت الحداثة السعودية أوراقها وأحرقتها سريعاً بما يشبه البراءة من الإثم؟ هل لحق بها العطب؟ أم لا تزال تستشرف داخل ولادة أو خلق جديد طلائع البعث الـ «ما بعد حداثوي»؟ يبدو لنا هذا السؤال وانشقاقاته الأخرى واسعاً وكبيراً، يحتاج إلى رصد دقيق لواقع التحولات التي مرت بها حداثتنا السعودية، التي لا تبنى فقط على تجارب شخصية، ولعل الغرابة الكامنة فيها أنها جاءت متساوقة مع متغيرات خارجية لا تمت إلى التحولات السياسية والفلسفية والاقتصادية المحلية بصلة، وهذه الغرابة في تعاطي الحداثة بلا إرهاصات أعطاها هذا الزخم الكبير من خلال شد الانتباه إليها، بوصفها حال انقلابية على القيم والمبادئ، لا تنتمي إلى مدرسة محلية معروفة، لذلك وصمت بالتغريب ونسبت إلى الكفر، مع أنها حقيقة لا تنتمي إلى ملة أو مذهب معين، بل بالعكس فهي تنقض على المذهبية بكل أشكالها، وتعلي من قيم العقل والتسامح مع كل الأفكار بوصفها مادة لا نهائية، كما أنها خاضعة للجدل بعيداً من التبني المطلق، لذلك تقاسمتها الجهات وشكلتها وفق مرئيات متباينة.

    الحداثة السعودية تحديداً كانت بمثابة طموح واكبته فرحة لم تكتمل، إذ ما لبثت أن تبددت تحت طائلة الهجمات المتعاقبة عليها، وأرجأت إحداثيات هذا التمدد وقتاً طويلاً عقب إلجاء الممثلين له للتمترس في خنادق أشبه ما تكون بخنادق المحاربين الذين تبددت ذخيرتهم سريعاً، وباتوا في انتظار لمدد يأتي إليهم لا يدرون من أين! على رغم أن الفرصة كانت سانحة للحركة داخل هذا المضمار بمشروع متكامل يضعها في مواجهة عاقلة وواعية مع خصومها، خصوصاً أنها - وفي فترة وجيزة - كونت لها قاعدة نخبوية جيدة، كان بمقدورها خلخلة البنى التحتية لجماعات الصحوة الشانئة، من دون دخول معها في مهاترات باهظة الكلفة.

    لو تعلم الحداثيون فقط حكمة الاصطبار على الثمر، ولو أدركوا جيداً أنهم لو لم يكونوا مؤثرين لما شنت عليهم تلك الحملة الشعواء، لو استشعروا فقط لذة المخاضات التي تمر بها ولادة حداثتهم، لو تماسكوا الأيدي ووقفوا جنباً إلى جنب في اصطفاف مهيب، لو اشتغلوا بـ «المثل» على أجندة الخصوم بقراءات مستفيضة لولاداتهم المتعجلة التي أنجبت الإرهاب، لكسروا تلك البيضة المقدسة وصنعوا منها «عجة» تسد بطون الجياع، لأن المشاريع التنويرية التاريخية تؤمن بحكمة البيضة وتطبقها على أرض الواقع، وعينها متشبثة بالمستقبل.

    يقال إن العالم خلال العقدين الماضيين دخل إلى عالم ما بعد الحداثة، هذا العالم لا يشبهنا بتاتاً ولا يعبر عنا، نحتاج إلى إعادة تدوير الزمن لنبدأ من حيث انتهينا، حتى يكتمل البناء الحداثي، ثم نلج على ثقة في حيز ما بعد الحداثة، ولكن: لو حدث ذلك فسيقال عنا: «ماضويون... متخلفون»... إذن فما الحل؟

    كاتب وروائي سعودي.
    الباطل صوته أعلى، وأبواقه اوسع، واكاذيبه لا تعد ولا تحصى، ولا يمكن ان تقف عند حد. فكيف اذا كان بعض ابطاله قد بات في نظر نفسه والعميان من حوله من انصاف آلهة.
Working...
X
😀
🥰
🤢
😎
😡
👍
👎