مائة عام من السلام
الاقتصادية
عبد الوهاب الفايز
كيف نكرس الوحدة الوطنية في: المائة عام القادمة؟
كيف نعيش في سلام في المائة عام القادمة .. كما عشناها في العقود الماضية منذ أن أنهى الملك عبد العزيز الحروب الأهلية وأسس وطناً استوعب المتخاصمين المتناحرين ليوجههم إلى السلام والبناء .. كيف نحافظ على هذا الموروث؟
حتى يأخذ الحديث مسارا عمليا، دعونا نباشر الحديث لنقول إن الذي يساعدنا على تحقيق التوسع في تعميق الوحدة الوطنية هو المبادرة إلى تشكيل (فرق عمل وطنية) متخصصة في المجالات الحيوية لمستقبلنا تعمل بدون قيود أو محاذير، إنما تلتقي لتناقش بذهن منفتح على المستقبل وأمامها هدف واحد هو: كيف نكرس الوحدة الوطنية لنعيش بأمن وسلام ونحفظ للأطفال والشباب (الذين هم أمانة في أعناقنا)، وطناً آمناً مستقراً، لا مجال فيه إلا: للبناء والسلام وسيادة مقومات العدالة الاجتماعية.
لا أعرف تحت أي مظلة ستكون هذه الفرق الوطنية المتخصصة ولكن الذي أعرفه أن لدينا المخلصين الذين يعرفون كيف نحقق هذا الهدف، وهؤلاء سيجدون الطريق والطريقة والمظلة الهادية المرشدة.
أول هذه الفرق، يفترض أن يكون اهتمامها هو: كيف نكرس موروث الملك عبد العزيز الذي هو خلاصة حلمه وجهاده ونضاله الاجتماعي والسياسي لتأسيس الدولة، فموروث هذا الرجل العظيم - رحمه الله - فيه الكثير من الثوابت التي تحتاج إلى التأصيل والتوثيق ثم إعادة إنتاجها لتكون الأسس والمنطلقات لبرامج التنمية السياسية والاجتماعية، فالملك عبد العزيز كان قائداً سياسياً ومصلحاً اجتماعياً، والثوابت التي وضعها للدولة هي ثمرة لتجربته السياسية في الإدارة والحكم وثمرة لنظريته الأخلاقية وقيمه الدينية الاجتماعية.
في "الاقتصادية" وجدنا أن اليوم الوطني فرصة مناسبة للوقوف عند هذا الموروث الكبير، وفي هذه السنة نشرنا أمس الأول البحث الموسع الذي أعده الزميل قاسم الرويس والذي أوضح كيف أن الملك عبد العزيز كان واعياً لأهمية تحصين أداء مؤسسات الدولة من مزالق الفساد، وما نشر عن مواقف الملك المؤسس وتوجيهاته بخصوص القضايا والأحداث والشكاوى كان أغلبها يعالج أحداثاً حية ويبلور من هذه الوقائع الأنظمة والتعليمات الواضحة الصارمة.
وقد عكست توجيهاته ومكاتباته، حتى في أمور دقيقة بسيطة، فطنته السياسية القيادية لخطورة التساهل في الإجراءات التي قد تقود إلى ممارسات الفساد، سواء المتعمد منها أو الناتج عن الجهل بالضوابط الأخلاقية أو بسبب النقص في الأنظمة والتعليمات، واهتمامه بهذا الجانب ليس مستغرباً منه ليس من منطلق تكوينه الديني والاجتماعي، بل من منطلق إدراكه لأهمية حماية الدولة الناشئة وحديثة التكوين والبسيطة في أدواتها المالية والإدارية المعتمدة غالباً على الحد الأدنى من ضرورات التدوين، فقد كانت بيئة مفتوحة للاحتمالات والاجتهادات وسوء التقدير والتدبير.
إضافة إلى الاستمرار والتوسع في تدوين موروث الملك عبد العزيز، هناك حاجة لعمل فرق وطنية تستشرف المستقبل لتبحث في السبل العملية لنقل الدولة والمجتمع لمواجهة تحديات الاستقرار والوحدة الوطنية في مجالات حيوية مثل: كيف توجد الحكومة والمجتمع آليات التربية الوطنية التي تجعل الشباب مندمجاً روحياً وفكرياً في المواطنة الإيجابية التي تأخذ السلوك إلى التعبير السلمي، وفي مساء الجمعة الماضي عندما تشاهد الشباب والأطفال كيف يعبرون عن فرحتهم باليوم الوطني في مظاهر احتفاء قد تكون بعيدة عن الانضباط بالنظام العام وفيها تجاوز لأخلاقيات الطريق وآدابه تدرك أن هذه (طاقة وطنية إيجابية) وهي ثروة للمستقبل، وهذه المظاهر تكشف عن مدى حاجتنا إلى نقلة جديدة في آليات التربية الوطنية وأدبياتها، فالدولة تستطيع أن تقود شعبها وتربيه لتحقيق الأهداف والمصالح العليا.
أمس زارنا في "الاقتصادية" السفير السويدي الجديد السيد داغ دانفيلت وكان جزء من الحديث قد دار حول تماسك الدولة والمجتمع الذي قاد السويد للسلام والاستقرار لأكثر من (مائتي عام) رغم الحروب الطاحنة التي شهدتها القارة الأوروبية، وهذا الموروث المهم الدائم للسلام والاستقرار لم يأت من فراغ، فخلفه (حكمة سياسية) ونظرية اقتصادية وممارسة أخلاقية للدولة والمجتمع، ساعدت الظروف الجغرافية للدولة على تماسكه وتبلوره واستمراره، والدول الاسكندنافية عموماً تقدم نموذجا مثاليا سياسيا واقتصاديا معاصرا على ما نذهب إليه .. وهو أن الدولة قادرة على التربية الوطنية لشعبها، والدول الاسكندنافية ما زالت بعيدة عن التبعات السياسية والاقتصادية للأزمة المالية التي تهدد استقرار أوروبا، فلم تشاهد انهيارا للبنوك أو الشركات أو مظاهرات واضطرابات في الشوارع .. فالناس ما زالت تنتخب السياسي الذي يتضمن برنامجه رفع الضرائب على جميع الناس .. لقد ربت الدول شعوبها على المسؤولية تجاه ذاتهم ومجتمعهم، فتساوى مقدار ما تقدمه الدولة للناس ومقدار ما تأخذه منهم .. هكذا تنمي الدول موروثها.
نحن عشنا منذ الوحدة مائة عام من السلام، وإذا نحن استثمرنا موروثنا وعدنا إلى الأدبيات والضوابط التي وضعها الملك عبد العزيز ضمن أسس الدولة فنجد أننا قادرون على أن نعيش مائة عام أخرى من السلام، فإذا وجدت الإرادة وجدت الطريقة.