عبدالحميد العمري - الاقتصادية
أظهر تقييم سابق لأداء القطاع الصحي (2007-2011) نشرته هنا في صحيفة «الاقتصادية»، أن نسبة تنفيذ وزارة الصحة لمشاريعها الحيوية لم تتجاوز 24 في المائة من الخطط والموازنات المستهدفة والمعلنة، وأن ذلك التأخر في تنفيذ المشاريع قد أدى إلى تواضع وتردي مستوى خدمات القطاع الصحي، وأسهم في زيادة الضغط الكبير على المتوافر منها، كما ظهرت بعض جوانب الخلل وحافظت على ديمومة حياتها، في جانب الرقابة على مستوى ونوع الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وكذلك الحال بالنسبة لمستشفيات ومستوصفات القطاع الخاص، إضافة إلى محددات تسعيرها للخدمات الصحية المقدمة منها، وامتدت جوانب الخلل تلك إلى تأخر إصلاح ومعالجة الأخطاء الطبية الناشئة عن غياب الرقابة على صلاحية شهادات العاملين في القطاع "أطباء، مساعدين، ممرضين"، بصورة أثبتها تفاقم حالات الأخطاء الطبية الفادحة، التي تنوعت نتائجها الخطيرة بين التسبب في وفاة المرضى، أو تعرضهم إلى إعاقات مستديمة طوال ما تبقى من حياة المرضى، عدا الأخطاء الأصغر، التي قد ينفع معها التدخل الطبي لإصلاح ما نتجت عنه تلك الأخطاء! وهو ما يؤكد تغلغل حالة من اهتراء الكوادر الطبية في القطاع الصحي لدينا.
استقطع القطاع الصحي من الميزانية الحكومية طوال العقد الماضي "الخطتين الثامنة والتاسعة"، أكثر من ضعف المخصصات المالية، التي اشترطتها وزارة الصحة في الخطط التنموية، وأحدثت كثيرا من التغييرات الهيكلية على جهاز وزارة الصحة طوال تلك الفترة، وماذا كانت النتائج؟! إلا تأخرا في تنفيذ وترجمة المشاريع الحيوية لديها، فلم يتجاوز معدل تنفيذها كما أسلفت ذكره أعلاه نسبة 24 في المائة بموجب الإحصاءات الرسمية المنشورة في التقرير السنوي لمؤسسة النقد، ومقارنته بما ورد في الخطتين التنمويتين الثامنة والتاسعة، ترتب ما ترتب عليها من بروز أوجه القصور على أداء القطاع خلال الأزمنة اللاحقة، وضعف مستوى الخدمات الصحية مقابل الطلب المتزايد عليها من السكان. ولم يقف الأمر عند تلك الحدود؛ بل امتد إلى دائرة واسعة من أوجه القصور، توزعت بين ضعف خطوط حماية المجتمع من انتشار الأوبئة المختلفة، وضعف تهيئة وتوعية أفراد المجتمع بأخطارها، وزيادة التنافس بين المستشفيات الحكومية والقطاع الخاص في مجال هشاشة العناية بالمرضى، وتفاقم الأخطاء الطبية، وضعف معدلات توطين العمالة المقترنة بضعف مستويات تأهيلهم وتدريبهم، خاصة خريجي الكليات والمعاهد الصحية، وغيرها من النتائج السلبية التي ترتبت على هذا الضعف الكامن في أحشاء واحد من أهم القطاعات الحيوية والتنموية لدينا. إنها حزمة من التحديات البالغة التعقيد، تجثو بجسدها العملاق أمام الوزير الجديد لوزارة الصحة! فكيف به أعانه الله أن يواجهها؟! لعل الخطوات الهيكلية التي اتخذها أخيرا قد تجدي مع بعض أوجه القصور التي يعانيها القطاع، كتفريغه لإحدى القيادات تحت إدارته لتولي ملفات المشاريع المتعثرة لدى الوزارة، وهو الأمر الإيجابي الذي اعترفت به الوزارة بعد عدة أعوام من تجاهلها وعدم اعترافها بهذا الخلل. وكذلك تشكيل فرق عمل مستقلة ترتبط مباشرة به، تتولى زيارة المستشفيات الرئيسة في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، والرفع بما يوضح مدى التزام المستشفيات بالأنظمة ومعايير الجودة ومعرفة احتياجاتها، إضافةً إلى التعرف على آراء المستفيدين من خدماتها لضمان تقديم أفضل الخدمات الصحية للمراجعين والمنومين. كل تلك الخطوات تعتبر أمرا محمودا، وتشكر عليه الوزارة، إلا أنها لن تكون كافية على الإطلاق لانتشال القطاع الصحي من الوعثاء التي تستوطنه منذ عدة أعوام!
وللتدليل عليه؛ فعدا خطوة تخصيص إدارة لمتابعة المشاريع المتعثرة والمتوقفة، سبق لجميع القيادات السابقة، التي تولت دفة وزارة الصحة أن قامت بتلك الخطوات من جولات تفتيشية مفاجئة، وتشكيل فرق للمتابعة والمراقبة، إلا أن الأوضاع سرعان ما عادت إلى أسوأ مما كانت عليه! ويضاف إليها ما يدور حول ملف اعتماد تخصيص القطاع، والعمل في الوقت الراهن ومستقبلاً على دعم هذا التوجه، والتفكير بخفض التدخل الحكومي في قطاع الصحة!
اختصاراً للقول هنا، على وعد بالعودة إليه في مقالات قادمة ـــ بإذن الله ـــ بمزيد من التفصيل والتحليل، والاستدلال بتجارب دول سبقتنا في هذا المضمار، اكتشفت بعد فوات الأوان أن أي نتائج عكسية مريرة اصطدمت بها مع توسع سياسات تخصيص القطاع الصحي، وأنها لم تؤد إلا لزيادة أشكال الفساد في القطاع، وتردي مستويات الخدمات الصحية، وأن هذا التوجه في تلك البلدان التي ذاقت مراراته المكلفة ماديا وبشريا، قد ارتكب أخطاء فادحة أن أخضع أحد أهم الجوانب الحيوية لأي مجتمع لمنطق قوى العرض والطلب السوقية! وأن الحكومات بأجهزتها المختلفة، وبحكم الأهداف من وجودها لأجل تنظيم حياة المجتمعات، يجب أن تكون الجهة الأولى في تحمل أعباء ومسؤوليات مجتمعاتها الحيوية كالدفاع والأمن والتعليم والصحة وتوفير المياه ومصادر الطاقة، نعم قد تتيح نوعا من شراكة منشآت القطاع الخاص في بعض تلك الجوانب، لكنها سترتكب أخطاء فادحة جدا إن هي أولت قوى السوق أغلب أو كل تلك المسؤوليات والمهام والأعباء الجسيمة!
لهذا على وزارة الصحة التريث كثيراً في توجهاتها تجاه زيادة تخصيص القطاع، وتجاه اعتماد التأمين الطبي، بل قد يكون إيقاف الهرولة في هذا الاتجاه في الوقت الراهن هو المطلب الأول والأهم! وإنه لمن العبث والخطأ أن يعتقد كثير من الأطراف، أن تخصيص القطاع الصحي بوضعه الراهن الغالب عليه التردي والضعف والاهتراء، هو "المخرج" الأول والأهم من هذا الواقع! ولو كانت الأمور بهذه البساطة والنظرة الأغلب عليها السطحية، لما غلبنا من أمرنا شيئا، ولما غلب غيرنا من البلدان التي تواجه ذات التحدي والمشكلة! ولماذا نذهب بعيدا، وها هي قاعدة بيانات البنك الدولي والدراسات المقارنة التي أجراها طوال العقود الثلاثة الماضية على أغلب بلدان العالم، ودراساته لتجاربها المختلفة في سياق إصلاحها وتطويرها للقطاع الصحي، تثبت أن الدول التي تحتل صدارة ترتيب ارتفاع كفاءة الخدمات الصحية، هي الدول ذاتها التي احتفظت حكوماتها بزمام المبادرة والإنفاق والتأسيس للقطاع الصحي، فيما هوت الدول التي أفرطت في ثقتها بالقطاع الخاص إلى ذيل سلم الترتيب الدولي، واصطدمت بأشكال جديدة من أشكال وصور الفساد الإداري والمالي لم تكن لتعانيه لولا خطواتها تلك التي جاءت نتائجها وبالا فادحا عليها. إن تأخر المشاريع، وتردي مستوى الخدمات الصحية، وتفاقم الأخطاء الطبية الفادحة الآثار، وغيرها مما يعانيه قطاعنا الصحي، ليست إلا نتائج لما يختمر في أروقته من علل وأمراض وتشوهات، وعلاج كل تلك الإفرازات لم ولن يتم بالقفز عليها، سواء بمسكنات كجولات التفتيش أو فرقها المنتثرة في كل حدب وصوب، ولا بالهروب من مواجهتها وتولية القطاع الخاص المسؤولية شبه الكاملة لملفات الصحة، بل له طرق أخرى، سيفرد لها مقال مستقل في القريب هنا كوجهة نظر بديلة، للوزارة الأخذ به أو تجاهله كما تشاء. والله ولي التوفيق.
أظهر تقييم سابق لأداء القطاع الصحي (2007-2011) نشرته هنا في صحيفة «الاقتصادية»، أن نسبة تنفيذ وزارة الصحة لمشاريعها الحيوية لم تتجاوز 24 في المائة من الخطط والموازنات المستهدفة والمعلنة، وأن ذلك التأخر في تنفيذ المشاريع قد أدى إلى تواضع وتردي مستوى خدمات القطاع الصحي، وأسهم في زيادة الضغط الكبير على المتوافر منها، كما ظهرت بعض جوانب الخلل وحافظت على ديمومة حياتها، في جانب الرقابة على مستوى ونوع الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وكذلك الحال بالنسبة لمستشفيات ومستوصفات القطاع الخاص، إضافة إلى محددات تسعيرها للخدمات الصحية المقدمة منها، وامتدت جوانب الخلل تلك إلى تأخر إصلاح ومعالجة الأخطاء الطبية الناشئة عن غياب الرقابة على صلاحية شهادات العاملين في القطاع "أطباء، مساعدين، ممرضين"، بصورة أثبتها تفاقم حالات الأخطاء الطبية الفادحة، التي تنوعت نتائجها الخطيرة بين التسبب في وفاة المرضى، أو تعرضهم إلى إعاقات مستديمة طوال ما تبقى من حياة المرضى، عدا الأخطاء الأصغر، التي قد ينفع معها التدخل الطبي لإصلاح ما نتجت عنه تلك الأخطاء! وهو ما يؤكد تغلغل حالة من اهتراء الكوادر الطبية في القطاع الصحي لدينا.
استقطع القطاع الصحي من الميزانية الحكومية طوال العقد الماضي "الخطتين الثامنة والتاسعة"، أكثر من ضعف المخصصات المالية، التي اشترطتها وزارة الصحة في الخطط التنموية، وأحدثت كثيرا من التغييرات الهيكلية على جهاز وزارة الصحة طوال تلك الفترة، وماذا كانت النتائج؟! إلا تأخرا في تنفيذ وترجمة المشاريع الحيوية لديها، فلم يتجاوز معدل تنفيذها كما أسلفت ذكره أعلاه نسبة 24 في المائة بموجب الإحصاءات الرسمية المنشورة في التقرير السنوي لمؤسسة النقد، ومقارنته بما ورد في الخطتين التنمويتين الثامنة والتاسعة، ترتب ما ترتب عليها من بروز أوجه القصور على أداء القطاع خلال الأزمنة اللاحقة، وضعف مستوى الخدمات الصحية مقابل الطلب المتزايد عليها من السكان. ولم يقف الأمر عند تلك الحدود؛ بل امتد إلى دائرة واسعة من أوجه القصور، توزعت بين ضعف خطوط حماية المجتمع من انتشار الأوبئة المختلفة، وضعف تهيئة وتوعية أفراد المجتمع بأخطارها، وزيادة التنافس بين المستشفيات الحكومية والقطاع الخاص في مجال هشاشة العناية بالمرضى، وتفاقم الأخطاء الطبية، وضعف معدلات توطين العمالة المقترنة بضعف مستويات تأهيلهم وتدريبهم، خاصة خريجي الكليات والمعاهد الصحية، وغيرها من النتائج السلبية التي ترتبت على هذا الضعف الكامن في أحشاء واحد من أهم القطاعات الحيوية والتنموية لدينا. إنها حزمة من التحديات البالغة التعقيد، تجثو بجسدها العملاق أمام الوزير الجديد لوزارة الصحة! فكيف به أعانه الله أن يواجهها؟! لعل الخطوات الهيكلية التي اتخذها أخيرا قد تجدي مع بعض أوجه القصور التي يعانيها القطاع، كتفريغه لإحدى القيادات تحت إدارته لتولي ملفات المشاريع المتعثرة لدى الوزارة، وهو الأمر الإيجابي الذي اعترفت به الوزارة بعد عدة أعوام من تجاهلها وعدم اعترافها بهذا الخلل. وكذلك تشكيل فرق عمل مستقلة ترتبط مباشرة به، تتولى زيارة المستشفيات الرئيسة في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، والرفع بما يوضح مدى التزام المستشفيات بالأنظمة ومعايير الجودة ومعرفة احتياجاتها، إضافةً إلى التعرف على آراء المستفيدين من خدماتها لضمان تقديم أفضل الخدمات الصحية للمراجعين والمنومين. كل تلك الخطوات تعتبر أمرا محمودا، وتشكر عليه الوزارة، إلا أنها لن تكون كافية على الإطلاق لانتشال القطاع الصحي من الوعثاء التي تستوطنه منذ عدة أعوام!
وللتدليل عليه؛ فعدا خطوة تخصيص إدارة لمتابعة المشاريع المتعثرة والمتوقفة، سبق لجميع القيادات السابقة، التي تولت دفة وزارة الصحة أن قامت بتلك الخطوات من جولات تفتيشية مفاجئة، وتشكيل فرق للمتابعة والمراقبة، إلا أن الأوضاع سرعان ما عادت إلى أسوأ مما كانت عليه! ويضاف إليها ما يدور حول ملف اعتماد تخصيص القطاع، والعمل في الوقت الراهن ومستقبلاً على دعم هذا التوجه، والتفكير بخفض التدخل الحكومي في قطاع الصحة!
اختصاراً للقول هنا، على وعد بالعودة إليه في مقالات قادمة ـــ بإذن الله ـــ بمزيد من التفصيل والتحليل، والاستدلال بتجارب دول سبقتنا في هذا المضمار، اكتشفت بعد فوات الأوان أن أي نتائج عكسية مريرة اصطدمت بها مع توسع سياسات تخصيص القطاع الصحي، وأنها لم تؤد إلا لزيادة أشكال الفساد في القطاع، وتردي مستويات الخدمات الصحية، وأن هذا التوجه في تلك البلدان التي ذاقت مراراته المكلفة ماديا وبشريا، قد ارتكب أخطاء فادحة أن أخضع أحد أهم الجوانب الحيوية لأي مجتمع لمنطق قوى العرض والطلب السوقية! وأن الحكومات بأجهزتها المختلفة، وبحكم الأهداف من وجودها لأجل تنظيم حياة المجتمعات، يجب أن تكون الجهة الأولى في تحمل أعباء ومسؤوليات مجتمعاتها الحيوية كالدفاع والأمن والتعليم والصحة وتوفير المياه ومصادر الطاقة، نعم قد تتيح نوعا من شراكة منشآت القطاع الخاص في بعض تلك الجوانب، لكنها سترتكب أخطاء فادحة جدا إن هي أولت قوى السوق أغلب أو كل تلك المسؤوليات والمهام والأعباء الجسيمة!
لهذا على وزارة الصحة التريث كثيراً في توجهاتها تجاه زيادة تخصيص القطاع، وتجاه اعتماد التأمين الطبي، بل قد يكون إيقاف الهرولة في هذا الاتجاه في الوقت الراهن هو المطلب الأول والأهم! وإنه لمن العبث والخطأ أن يعتقد كثير من الأطراف، أن تخصيص القطاع الصحي بوضعه الراهن الغالب عليه التردي والضعف والاهتراء، هو "المخرج" الأول والأهم من هذا الواقع! ولو كانت الأمور بهذه البساطة والنظرة الأغلب عليها السطحية، لما غلبنا من أمرنا شيئا، ولما غلب غيرنا من البلدان التي تواجه ذات التحدي والمشكلة! ولماذا نذهب بعيدا، وها هي قاعدة بيانات البنك الدولي والدراسات المقارنة التي أجراها طوال العقود الثلاثة الماضية على أغلب بلدان العالم، ودراساته لتجاربها المختلفة في سياق إصلاحها وتطويرها للقطاع الصحي، تثبت أن الدول التي تحتل صدارة ترتيب ارتفاع كفاءة الخدمات الصحية، هي الدول ذاتها التي احتفظت حكوماتها بزمام المبادرة والإنفاق والتأسيس للقطاع الصحي، فيما هوت الدول التي أفرطت في ثقتها بالقطاع الخاص إلى ذيل سلم الترتيب الدولي، واصطدمت بأشكال جديدة من أشكال وصور الفساد الإداري والمالي لم تكن لتعانيه لولا خطواتها تلك التي جاءت نتائجها وبالا فادحا عليها. إن تأخر المشاريع، وتردي مستوى الخدمات الصحية، وتفاقم الأخطاء الطبية الفادحة الآثار، وغيرها مما يعانيه قطاعنا الصحي، ليست إلا نتائج لما يختمر في أروقته من علل وأمراض وتشوهات، وعلاج كل تلك الإفرازات لم ولن يتم بالقفز عليها، سواء بمسكنات كجولات التفتيش أو فرقها المنتثرة في كل حدب وصوب، ولا بالهروب من مواجهتها وتولية القطاع الخاص المسؤولية شبه الكاملة لملفات الصحة، بل له طرق أخرى، سيفرد لها مقال مستقل في القريب هنا كوجهة نظر بديلة، للوزارة الأخذ به أو تجاهله كما تشاء. والله ولي التوفيق.