تجفيف منابع «الإبداع»
راشد العبدالكريم - الحياة
ليس صحيحاً أن ثقافتنا ينقصها الإبداع ويندر فيها وجود المبدعين. فبيئتنا العربية مبثوث فيها الإبداع كما هو في غيرها. المشكلة التي نعاني منها في نظري هي الاحتفاء بالإبداع، ورعايته. وأنا هنا لا أقصد البرامج التي تقيمها الجهات التي تزعم الاهتمام بالموهوبين المبدعين الصغار، بل أعني شيئاً آخر.
عندما يطرح مفكر أو مبدع فكرة، فإن الطريقة التقليدية لقتلها هي أن تهاجمها وتثبت عدم صوابها، بحق أو بباطل. وهذه هي الطريقة التقليدية، إن صحت التسمية في وأد الإبداع. أما الطريقة الثانية، التي نعاني منها، وهي الطريقة الخفية لتجفيف منابع الإبداع ووأده في مهده، فهي تجاهل الفكرة الإبداعية وعدم الاحتفاء بها ووضعها في البيئة المنمية لها. فالمفكر عندما يطرح فكرة، إنما هو يبذر بذرة، ويأتي دور الآخرين من خلال النقد العلمي لتلك الفكرة.
فهذا النقد هو الذي يصوّب الفكر ة ويطورها ويشجع صاحبها على الدفاع عنها أو تعديلها بناء على ملاحظات الآخرين. فنحن إما أن نئد الفكرة بغير حق في مهدها، أو نتجاهلها فتموت من ذاتها، ويموت معها المبدع حسرة على «بنات» أفكاره.
هذا ما لا يحدث في الغرب الذي يشهد وفرة في الأفكار الإبداعية. فالأفكار في الغرب، منذ أن تطرح تكون في ميدان النقد، وليس الانتقاد، فتجد من يتبناها، وتجد من ينقدها برفق وقد تجد من ينقدها بعنف، وتجد من يتحمس لها. وتجد من يختبرها ويبني عليها، وهذا هو الذي يطور الفكرة. المهم أنها تدخل قاموس الأفكار، وتصبح دارجة في الأدبيات الفكرية، بأي شكل من الأشكال.
غالباً الحال عندنا يختلف، فالأصل هو الانتقاد والتسفيه للفكرة الجديدة، إلا أن يكون الدافع للقبول أيديولوجياً «أو مصلحياً وليس علمياً، وبذلك يبذل كثير من النقاد قصارى جهدهم لإسقاطها. وفي المقابل يلتزم أكثر المفكرين الصمت حيال الفكرة، حتى لو كانوا يرون صوابها. لكن لا يحسون بأنهم ملزمون بطرح آرائهم حيالها. وبذلك تصبح الفكرة بين صاحبها وربما القلة المتحمسة معه لفكرته، وبين خصومها المنادين بإسقاطها. وبالتالي تحرم من حقها في البقاء وحقها في النقد المحايد البناء. فيُحرم الفكر من فكرة كان يمكن أن تكون مثرية، أو ممراً لأفكار أخرى مثرية.
وهذا يعاني منه الفكر العربي منذ القدم، فقد عانى منه فكر الشافعي، رحمه الله، وعانى منه فكر الإمام أحمد، فالأغلبية تمالأت على وأد أفكارهما وآرائهما. فصاروا بين تلاميذ فقط ينشرون أقوالهما، وبين خصوم يسرفون في قتلها، ولو استدعى ذلك الاستعانة بالقوة والسلطان. فترى المتكلمين الذين يرون استخدام العقل في المحاجة يشيحون عن أقوال أتباع الإمام أحمد ويكتفون بنبذهم بالحشوية أو المشبهة، بينما لا يجدون حرجاً في التنزل مع كل خصومهم وعادة من غير المسلمين ومجادلته بالحجج العقلية.
وحدث الشيء نفسه مع ابن تيمية وابن القيم، فقط طرح هذان الإمامان أفكاراً عظيمة في المنطق وعلم النفس والسياسة والتربية، لكن لم تتلقَ من معاصريهم بما تستحقه من عناية علمية «سوى النقل من طلابهم». مع أنها كان يمكن أن تكون نظريات تطور ويُبنى عليها تطبيقات عملية كانت ستطور المجتمع والحضارة بشكل عام في وقتهم.
فماذا لو أخذت آراء ابن تيمية في المنطق ونقده له، وكلامه الكثير حول المعرفة مما يمكن أن يكون نظرية متكاملة تفوق كثيراً من النظريات التي أتت بعده؟ وماذا سيكون لو أخذت آراء ابن القيم في علم النفس وفي التربية وصيغت على شكل نظرية واختبرت ونقدت وطورت.
طبعاً هذه الأمثلة من الماضي، لا تعني أن الأمر تحسن، بل أخشى أن الأمر ازداد سوءاً، لسببين:
الأول: أن القدماء لم يعرفوا أساليب صياغة النظريات والتحقق منها، وربما كان أكثرهم دون مستوى الفكر الذي تلقوه ونحن عرفناه.
الثاني: أن القدماء لم يختلطوا بأقوام مارسوا نقد الأفكار وبناء النظريات، بمعنى أنهم لم يشاهدوا أمثلة حية على ذلك، ولم يكن ذلك عرفاً ثقافياً وفكرياً رأوه وألفوه، أما نحن فنتشدق صباح مساء بضرورة أن نعمل ما يعمله الغرب.
مثلاً محمد قطب كتب كتابات جيدة وجديدة في مجال علم النفس والتربية، لكن لم تتعرض كتاباته للنقد العلمي ولم تطور ولم تجر بحوث للتحقق منها. فظلت على ما هي عليه منذ أن كتبها، بل حتى طلابه لم يتعرضوا لها، إلا ـ كالعادة ـ بالنقل والاقتباس. وكذلك الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في مجال علم النفس، فقد طرح نظرية في الدوافع، لم نرَ أحداً ناقشها أو طورها أو تبناها. وغيرهم كثير.
قد يكون السبب راجع لنقص الأصالة في ما نكتبه، أعنى أن ما نكتبه «في غالبه» مجرد نقل عن الغربيين وليس فكراً ننتجه، بل نحن - كما قال زكي محمود - مجرد مرايا، تعكس ما يقع عليها من فكر الغرب، وقد يكون الانعكاس مشوها ًلتشوه المرآة.
هذه البيئة تجعل المبدع يحجم عن التفكير الجاد العميق، أو عن نشر ما يتوصل إليه من أفكار، فماذا سأستفيد بعد عناء النشر، إلا الهجوم غير العلمي أو التجاهل؟
* أكاديمي سعودي.
راشد العبدالكريم - الحياة
ليس صحيحاً أن ثقافتنا ينقصها الإبداع ويندر فيها وجود المبدعين. فبيئتنا العربية مبثوث فيها الإبداع كما هو في غيرها. المشكلة التي نعاني منها في نظري هي الاحتفاء بالإبداع، ورعايته. وأنا هنا لا أقصد البرامج التي تقيمها الجهات التي تزعم الاهتمام بالموهوبين المبدعين الصغار، بل أعني شيئاً آخر.
عندما يطرح مفكر أو مبدع فكرة، فإن الطريقة التقليدية لقتلها هي أن تهاجمها وتثبت عدم صوابها، بحق أو بباطل. وهذه هي الطريقة التقليدية، إن صحت التسمية في وأد الإبداع. أما الطريقة الثانية، التي نعاني منها، وهي الطريقة الخفية لتجفيف منابع الإبداع ووأده في مهده، فهي تجاهل الفكرة الإبداعية وعدم الاحتفاء بها ووضعها في البيئة المنمية لها. فالمفكر عندما يطرح فكرة، إنما هو يبذر بذرة، ويأتي دور الآخرين من خلال النقد العلمي لتلك الفكرة.
فهذا النقد هو الذي يصوّب الفكر ة ويطورها ويشجع صاحبها على الدفاع عنها أو تعديلها بناء على ملاحظات الآخرين. فنحن إما أن نئد الفكرة بغير حق في مهدها، أو نتجاهلها فتموت من ذاتها، ويموت معها المبدع حسرة على «بنات» أفكاره.
هذا ما لا يحدث في الغرب الذي يشهد وفرة في الأفكار الإبداعية. فالأفكار في الغرب، منذ أن تطرح تكون في ميدان النقد، وليس الانتقاد، فتجد من يتبناها، وتجد من ينقدها برفق وقد تجد من ينقدها بعنف، وتجد من يتحمس لها. وتجد من يختبرها ويبني عليها، وهذا هو الذي يطور الفكرة. المهم أنها تدخل قاموس الأفكار، وتصبح دارجة في الأدبيات الفكرية، بأي شكل من الأشكال.
غالباً الحال عندنا يختلف، فالأصل هو الانتقاد والتسفيه للفكرة الجديدة، إلا أن يكون الدافع للقبول أيديولوجياً «أو مصلحياً وليس علمياً، وبذلك يبذل كثير من النقاد قصارى جهدهم لإسقاطها. وفي المقابل يلتزم أكثر المفكرين الصمت حيال الفكرة، حتى لو كانوا يرون صوابها. لكن لا يحسون بأنهم ملزمون بطرح آرائهم حيالها. وبذلك تصبح الفكرة بين صاحبها وربما القلة المتحمسة معه لفكرته، وبين خصومها المنادين بإسقاطها. وبالتالي تحرم من حقها في البقاء وحقها في النقد المحايد البناء. فيُحرم الفكر من فكرة كان يمكن أن تكون مثرية، أو ممراً لأفكار أخرى مثرية.
وهذا يعاني منه الفكر العربي منذ القدم، فقد عانى منه فكر الشافعي، رحمه الله، وعانى منه فكر الإمام أحمد، فالأغلبية تمالأت على وأد أفكارهما وآرائهما. فصاروا بين تلاميذ فقط ينشرون أقوالهما، وبين خصوم يسرفون في قتلها، ولو استدعى ذلك الاستعانة بالقوة والسلطان. فترى المتكلمين الذين يرون استخدام العقل في المحاجة يشيحون عن أقوال أتباع الإمام أحمد ويكتفون بنبذهم بالحشوية أو المشبهة، بينما لا يجدون حرجاً في التنزل مع كل خصومهم وعادة من غير المسلمين ومجادلته بالحجج العقلية.
وحدث الشيء نفسه مع ابن تيمية وابن القيم، فقط طرح هذان الإمامان أفكاراً عظيمة في المنطق وعلم النفس والسياسة والتربية، لكن لم تتلقَ من معاصريهم بما تستحقه من عناية علمية «سوى النقل من طلابهم». مع أنها كان يمكن أن تكون نظريات تطور ويُبنى عليها تطبيقات عملية كانت ستطور المجتمع والحضارة بشكل عام في وقتهم.
فماذا لو أخذت آراء ابن تيمية في المنطق ونقده له، وكلامه الكثير حول المعرفة مما يمكن أن يكون نظرية متكاملة تفوق كثيراً من النظريات التي أتت بعده؟ وماذا سيكون لو أخذت آراء ابن القيم في علم النفس وفي التربية وصيغت على شكل نظرية واختبرت ونقدت وطورت.
طبعاً هذه الأمثلة من الماضي، لا تعني أن الأمر تحسن، بل أخشى أن الأمر ازداد سوءاً، لسببين:
الأول: أن القدماء لم يعرفوا أساليب صياغة النظريات والتحقق منها، وربما كان أكثرهم دون مستوى الفكر الذي تلقوه ونحن عرفناه.
الثاني: أن القدماء لم يختلطوا بأقوام مارسوا نقد الأفكار وبناء النظريات، بمعنى أنهم لم يشاهدوا أمثلة حية على ذلك، ولم يكن ذلك عرفاً ثقافياً وفكرياً رأوه وألفوه، أما نحن فنتشدق صباح مساء بضرورة أن نعمل ما يعمله الغرب.
مثلاً محمد قطب كتب كتابات جيدة وجديدة في مجال علم النفس والتربية، لكن لم تتعرض كتاباته للنقد العلمي ولم تطور ولم تجر بحوث للتحقق منها. فظلت على ما هي عليه منذ أن كتبها، بل حتى طلابه لم يتعرضوا لها، إلا ـ كالعادة ـ بالنقل والاقتباس. وكذلك الدكتور عبدالعزيز النغيمشي في مجال علم النفس، فقد طرح نظرية في الدوافع، لم نرَ أحداً ناقشها أو طورها أو تبناها. وغيرهم كثير.
قد يكون السبب راجع لنقص الأصالة في ما نكتبه، أعنى أن ما نكتبه «في غالبه» مجرد نقل عن الغربيين وليس فكراً ننتجه، بل نحن - كما قال زكي محمود - مجرد مرايا، تعكس ما يقع عليها من فكر الغرب، وقد يكون الانعكاس مشوها ًلتشوه المرآة.
هذه البيئة تجعل المبدع يحجم عن التفكير الجاد العميق، أو عن نشر ما يتوصل إليه من أفكار، فماذا سأستفيد بعد عناء النشر، إلا الهجوم غير العلمي أو التجاهل؟
* أكاديمي سعودي.