التوعية الوسيلة الأمثل لمواجهة انخفاض الإيرادات
الاقتصادية
د. عبد العزيز الغدير - 14/11/1429هـ
[email protected]
يروي لي أحد الأصدقاء، وهو ذو دخل متوسط، قائلا إنه لا قبل له بمصروفات تأهيل أبنائه ليكونوا على معرفة ومهارة في الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية اللذين أصبحا في حكم الضرورة، حتى قيل إن مفهوم محو الأمية تغير من محو أمية الكتابة والقراءة والحساب إلى محو أمية الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية، التي أصبحت لغة عالمية لأسباب متعددة، ويقول صديقي هذا إنه اتجه إلى توعية أبنائه بأهمية الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية ليبذلوا جهودا فردية وجماعية لتعلمها دون أن يصرف عليهم كثير مال، وهو ما تحقق له، حيث تعاونوا على ذلك فأصبحوا محترفين في الحاسب الآلي على مستوى التعامل مع الجهاز ومع البرمجيات، إضافة إلى مهارتهم العالية في اللغة الإنجليزية كتابة وقراءة ومحادثة.
في الجانب الآخر يشتكي لي صديق آخر من كثرة المصروفات على أبنائه لتعلم الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية دون فائدة تذكر، حيث يقول إنه أدخلهم في أغلى المعاهد، ولكن دون جدوى، إذ يتقاعس أبناؤه عن التعلم والممارسة، ما جعله يشعر بالقلق حيال مستقبل أبنائه في عالم يتخاطب باللغة الإنجليزية ويتواصل من خلال الحاسب الآلي.
وأقول: من الواضح أن الأول استطاع أن يرفع من درجة وعي أبنائه بأهمية الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية وحفزهم على تعلمهما ووجههم إلى البدائل التي تمكنهم من ذلك بتكاليف زهيدة، وهو ما جعلهم يتعاونون للنجاح في تلك المهمة حتى أصبحوا ذوي معرفة ومهارة في اللغة والحاسب. لقد علمت منه أن كلا من أبنائه يحضر موضوعا باللغة الإنجليزية ليفهمه ويستخلص الكلمات الجديدة ويعرضها على إخوته ليتنافسوا في حفظها واستخدامها، فضلا عن المنافسة في ترجمة الأفلام الأجنبية، أما الحاسب فقد كان كل واحد من أبنائه يبحث في أسرار كل برنامج ليعرف الآخرين عليها، وهكذا حتى أصبحوا ذوي معرفة ومهارة بشكل مذهل. بينما الثاني اتجه إلى التعليم مباشرة دون التوعية وهو ما جعل أبناءه في حالة عزوف عن التعلم، رغم توافره، لأنهم على غير قناعة بأهميته وضرورته.
التوعية هي الوسيلة الأمثل لتحقيق الأهداف، رغم ضعف الموارد المالية، ولا يشك أحد منا أن الإنسان الواعي أقدر على التعامل مع معطيات الحياة من الإنسان غير الواعي، وإن ندرت إمكاناته، وتعاظمت إمكانات الآخر، وكلنا يعلم أن "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، وكلنا يرى وعي بعض الفقراء بأهمية التعليم والمعرفة لتطوير حياتهم، وهو ما جعلهم في المراتب الدراسية الأولى بخلاف كثير من الأثرياء الذين يعتقدون أن المال هو الأكثر أهمية لتطوير حياتهم، ما أدى إلى فشل كثير منهم وضياع ثرواتهم "العلم يبني بيوتا لا عماد لها .. والجهل يهدم بيت العز والكرم"، ولا شك أن الجمع بين الوعي والمال نور على نور، وكلنا يرى أن أبناء الأثرياء الذين على درجة عالية من الوعي بأهمية العلم التحقوا بأفضل المدارس والجامعات وحصلوا على المعارف والمهارات التي مكنتهم من تحقيق نجاحات باهرة في المجالات التي يعملون فيها.
ورغم كل ذلك، فإن القائمين على الأجهزة الحكومية والمنشآت الخاصة لا يخصصون إلا النزر القليل للصرف على التوعية، رغم نتائجها الباهرة وأهميتها في تعظيم نتائج الصرف على الأمور الأخرى كون نتائج الوعي غير ملموسة بخلاف نتائج المصروفات الأخرى الملموسة كالبناء والتأثيث وشراء الأجهزة .. إلخ.
ولو أخذنا ميزانية وزارة الصحة، على سبيل المثال، وقارنا ما يُصرف على الأبنية والأدوية والأجهزة والمواد والمعدات والموارد البشرية (وكل ذلك صرف على ملموس) وقارناه بما يصرف على التوعية، لوجدنا خللا كبيرا أفضى إلى زيادة الصرف على الملموس، حيث يرتفع أعداد المرضى الذين من الممكن أن يتجنبوا المرض أو يتجنبوا تفاقمه لو كان لديهم الوعي الصحي الكافي، وبالتأكيد فإن انخفاض درجة الوعي أدت إلى تزاحم فوق العادة على العيادات والطوارئ وعلى الأسرة، وهو ما أدى إلى رفع المصروفات مع ارتفاع حالات التذمر من سوء الخدمات الصحية، وأشك أن هذه حالة جميع أجهزتنا الحكومية، حيث قلة أو انعدام الصرف على الوعي المروري والوعي الاجتماعي والوعي التربوي والوعي الأمني والوعي القانوني والوعي بالتعاملات في الأسواق والأموال .. إلخ ، إلا من خلال حملات تعتمد على الرعايات الضعيفة جدا.
ما أخشاه ويخشاه كثير أن تتم مواجهة انخفاض إيرادات الموازنة الحكومية وما يترتب عليها من انخفاض في إيرادات كثير من شركات القطاع الخاص، (الحكومة مازالت المحرك الأساسي للاقتصاد)، عدم زيادة أو إيقاف أو تقليص موازنات الصرف على اللاملموس من دراسات وبحوث وتدريب وتوعية، لأن مصروفات على غير ملموس وتركيز المصروفات على ما هو ملموس، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى خلق مزيد من المصروفات لنقص الدراسات والخطط العلمية وانخفاض درجات الوعي لتصبح الموازنة المتاحة غير كافية مهما تعاظمت في ظل انكماش الإيرادات.
والحل في اعتقادي أن تتم مواجهة نقص الإيرادات بمزيد من الصرف على التوعية، وهي مصروفات مهما تعاظمت لا تقارن بالمصروفات الأخرى من بناء وتشغيل وصيانة لأي قطاع كان "الصحي مثالا"، ولكنها بالتأكيد تشكل السد المنيع للحد من المصروفات المتزايدة في حال انخفاض درجات الوعي، ولو وعى على سبيل المثال الشباب مخاطر السرعة واجتنبوها لوفرنا مليارات الريالات التي تصرف على علاج المصابين وتلك التي تهدر في إصلاح السيارات أو الممتلكات المتضررة، فضلا عما تخسره البلاد من شباب في عمر الزهور أمواتا أو معوقين وما يترتب على ذلك من تكاليف اجتماعية باهظة هي الأخرى، وكلي ثقة بالمسؤولين في القطاعين الحكومي والخاص وقطاع مؤسسات المجتمع المدني أن ينتبهوا لذلك ويعطوا التوعية حقها من المال والاهتمام، فالشعوب الواعية أقدر على مواجهة ظروف الحياة والتصدي لقضاياها ومشكلاتها بأقل التكاليف.