خنق الناس لمعالجة التضخم
الوطن
عبدالله ناصر الفوزان
حين كان أستاذ الاقتصاد يؤدي دوره المعتاد أمام الطلبة فيتحدث عن التضخم في المجتمع السعودي... كان "عدولي" كعادته عندما لا يعجبه كلام الأستاذ مندمجاً هو الآخر في دوره المعتاد.. وهو التفكير بشكل آخر.. وكان وهو يفعل ذلك قد لفت نظره تضخم بطن الأستاذ.. فكان لهذا بدلاً من أن يصغي للمحاضرة يصغي لحديث آخر صادر من ذلك الصندوق الذي فوق عنقه.. كان يتأمل في بطن الأستاذ المتورم.. ويتذكر أيضاً بطن العميد كحالتين ماثلتين من مظاهر التضخم.. ويبتسم.
ولاحظ الأستاذ أن "عدولي" كان يبتسم، ولأنه يعرف "عدولي" تمام المعرفة، ويدرك ما يختبئ خلف ابتساماته من سخرية.. فقد توقف عن الحديث، وقال لعدولي.. خير يا عدول..!! ليش تبتسم.. فقال عدولي أنت يا أستاذ تتحدث عن التضخم في المجتمع السعودي.. وقد تحدثت عن مظاهر التضخم ولكنك لم تتحدث عن مظاهر التورم.. فالتورم هو المرض الحقيقي.
قال الأستاذ لعدولي ما هي مظاهر التورم يا عدولي.. قال عدولي.. منذ سنوات ومجتمعنا السعودي في مجمله يتورم.. بطون الرجال.. وصدور النساء.. وكان عدولي يريد الاستمرار ولكن قهقهة بعض الطلبة وامتقاع وجه الأستاذ جعلاه يتوقف عن الحديث.. وتمالك الأستاذ نفسه محاولاً عبور المطب مع عدولي بسلام.. فابتسم وقال ثم ماذا يا عدولي..؟؟
قال عدولي.. هناك الآن عيادات طبية عندنا متخصصة في التورم... ليس لعلاجه... ولكن لزرعه في الأبدان.. ولم تعد الأورام عندنا تقتصر على الأبدان بل أصبحت كالوباء.. كل شيء يتضخم.. أو على الأصح يتورم.. حتى الإشاعات.. وحالات (السحر) ومظاهر الأوهام.. بل وحتى أصوات مكبرات الصوت تضخمت وتورمت.. خارج المساجد وداخلها.
وأراد الأستاذ أن يعيد لنفسه الاعتبار ويلقن عدولي درساً فقال.. يتضح يا عدولي أنك في واد ونحن في واد آخر.. نحن نتحدث عن تضخم الأسعار وأنت تتحدث عن تورم الأبدان.. هذا يدل على ضعف إصغائك وضعف إدراكك أصلحك الله.
قال عدولي.. لا.. يا أستاذ.. إني أتحدث عن صميم المشكلة التي تحدثت عنها.. ولكني أنظر لها كما هي فيما أنت تنظر لظلها.. وارتفعت حواجب الأستاذ.. وتعالت ابتسامات الطلبة.. فقال الأستاذ.. والله عبقري يا عدولي!! وضح لنا وش علاقة أورامك الآن التي في جسمك بغلاء الأسعار!! قال عدولي.. يا أستاذ.. بطون الناس تتضخم عندنا لأنهم يستهلكون أغذية أكثر من حاجتهم.. وهذا يعني أن الطلب على الغذاء يكثر.. وإذا زاد الطلب على الغذاء ارتفع سعره.. وحصل التضخم الذي تقصده.. وما ينطبق على أورام البطون ينطبق على الأورام الأخرى.. أي ما ينطبق على الغذاء ينطبق على الدواء وعلى كل البضائع الأخرى.. أليس هذا واضحاً يا أستاذ..؟!
وحرك الأستاذ شفتيه بصوت غير مسموع قائلاً.. وش أسوي بها النشبة...؟؟ فقال عدولي.. وش تقول يا أستاذ..؟ وأراد الأستاذ البحث عن مخرج فقال لعدولي.. ما هو الحل في رأيك يا عدولي..؟ أنت تحدثت عن مظاهر التضخم ولم تتحدث عن وسائل العلاج.
قال عدولي.. هناك وسيلتان للمواجهة.. فقال الأستاذ ما هما يا عبقري.. قال عدولي.. الأولى صعبة جداً وهي إقناع الناس.. والثانية سهلة جداً.. وهي خنق الناس.
حينئذ قهقه الطلبة وضحك الأستاذ وهو يردد.. خنق الناس.. خنق الناس.. واعتقد الأستاذ أن عدولي قد وقع في مطب شديد فأراد استثماره.. فقال.. يا عدولي.. أنت تقول إن هناك وسيلتين.. إقناع الناس.. وخنق الناس.. فماذا عملت مؤسسة النقد وهي تعالج حالة التضخم لدينا.. هل أقنعت الناس.. أم خنقت الناس..؟؟
قال عدولي.. مؤسسة النقد استخدمت الوسيلة التقليدية التي يعرفها الطلبة حتى في المرحلة الثانوية.. والتي قد لا تصلح لحالة التضخم عندنا وهي سحب السيولة ورفع الفائدة.. جففت السيولة من البنوك ورفعت سعر فائدة الإقراض.. واستخدمت زيادة على هذا السوق المالية بإقناع هيئة السوق فيما يبدو بطرح اكتتابات كثيرة بشكل متواصل فانحدرت أسعار الأسهم وأصبح المستثمرون في السوق يواجهون الخسائر بدلاً من الأرباح التي تعينهم على توفير مصادر الدخل..
قال الأستاذ.. ماذا يعني هذا.. هل تقصد أن مؤسسة النقد قد خنقت الناس.؟ قال عدولي.. يا أستاذ.. ألست أنت وغيرك من أساتذة الاقتصاد ومسؤوليه تقولون إن أغلب مؤثرات التضخم لدينا خارجية..؟؟ قال الأستاذ.. بلى.. قال عدولي طيب.. ما فائدة تخفيض القدرة الشرائية للمواطن على تخفيض الأرز القادم من الهند والحديد القادم من تركيا والصين.. والسيارات القادمة من أوروبا واليابان.. والجوالات وأجهزة التقنية والأدوات الكهربائية القادمة من مختلف أنحاء العالم..؟؟ إذا خنقتني يا أستاذ كي لا آكل الأرز فهل سينخفض سعره عالمياً..؟؟
قال الأستاذ.. طيب يا عدولي.. يا عبقري.. هل تقول لنا لماذا خنق الناس لم يساهم في تخفيف أورام أبدانهم..؟ فقال عدولي.. بل قل أورام بطونهم يا أستاذ.. والإجابة على سؤالك سهلة وهي أن المظاهر المرضية لا تعالج بالوسائل السلبية.. فأرجوك يا أستاذ.. كن إيجابياً معنا هذا اليوم ودعنا نفكر في مواجهة مشاكلنا بطريقة عملية واقعية.. قال الأستاذ وش قصدك..؟ قال عدولي.. العالم الآن يواجه الكساد فصادراتنا انخفضت أسعارها إلى النصف وأنت مثل مؤسسة النقد تتحدث عن التضخم.. فقال أحد الطلبة.. هل تقصد يا عدولي أن الكساد القادم كفيل بمعالجة التورم.. قال عدولي.. وهو ينظر إلى بطن الأستاذ.. يا ليت.. يا ليت!