Announcement

Collapse
No announcement yet.

بالصحة والعافية

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • بالصحة والعافية

    بالصحة والعافية



    هالة الدوسري - الحياة



    لا تتوقف مفاجآت وزارة الصحة هنا، فهل يمكن أن تنجح وزارة الصحة السعودية في ما فشلت في تحقيقه حكومات العالم كافة في استئصال التدخين من المملكة؟ الدعوى القضائية التي رفعتها الوزارة أخيراً ضد وكلاء شركات التبغ في المملكة ستجيب عن هذا السؤال، جلسة المحكمة لم يحضر فيها سوى ممثل واحد فقط لواحدة من الشركات الإحدى عشرة - وهو رقم مشؤوم في تاريخنا العربي - لتسليم لائحة اعتراض شركته على القضية، وتستند الوزارة في قضيتها إلى الميزانية الضخمة التي تنفقها الدولة لعلاج آثار التدخين من الأمراض التنفسية وسرطان الرئة، والعجيب في الأمر أن نية الوزارة في مقاضاة الشركات قديمة، تعود إلى أكثر من ثلاث سنوات مضت، قامت فيها إحدى الشركات وقتها بعرض مبلغ 180 مليون ريال سنوياً للمساهمة في نفقات العلاج، وقد توقفت بالطبع عند مشهد موظفي الوزارة الذين حضروا إلى المحكمة يحملون صناديق حديدية تحوي لوائح الادعاء وأدلته، ومن المؤكد أنها تحمل ملفات المرضى، وحساب نفقات العلاج في مطبوعات ورقية تم تعريبها حتى يمكن لأعضاء المحكمة الاطلاع عليها،

    والحقيقة لا أشك في سلامة نية الوزارة في تخليص المملكة من آثار التدخين الصحية المدمرة، ولكن كان من الأولى أن يتم تفعيل تلك الجهود الضائعة مقدماً في التوعية والتثقيف الصحي، ووضع القوانين واللوائح التي تقنن التدخين في الأماكن العامة، وتحدد أماكن بيعه وعمل ضريبة مرتفعة لشراء علب الدخان واستيرادها، وهو ما يمكن أن يدر دخلاً كبيراً للدولة يمكن به تغطية نفقات العلاج وبرامج التثقيف الصحي، وهو ما يحقق أيضاً هدف التعويض المادي وليس الصحي الذي تسعى إليه الوزارة في أروقة المحاكم الطويلة للغاية لدينا، ولكن يبدو أن الوزارة من محبي سياسة النفس الطويل، أو أن المسؤولين لم يمروا عبر أي من المقالات الكثيرة المنشورة عن أوضاع المحاكم المؤسفة،

    ولا أستبعد أن تأخذ تلك القضية وقتاً مشابهاً للسنوات الثلاث السابقة التي تم التفكير فيها في الدعوى، إن لم يكن أطول لضمان حضور الوكلاء فقط، ولا أستبعد أيضاً أن تنتهي الدعوى بتعويض الوزارة لتلك الشركات عن بدل السمعة، فقضاؤنا مشهور بأحكامه المبتكرة وغير المتوقعة في كل قضية، وصناعة التبغ التي تدر ملايين الريالات وتعرض أن تقدم ملايين مثلها كمساعدة سنوية للوزارة لا يمكن أن تختفي لدينا بتلك السهولة، بل على العكس من الممكن أن تزدهر ويسعى المدخنون الشرهون لدينا إلى دعم مخزونهم بالمزيد من الشراء، كحالات جنون الشراء التي تشهدها البقالات لدينا قبل أي حالة طارئة، كرمضان مثلاً - إذا اعتبرناه في حكم الطوارئ - القضاء على المشكلات الصحية المدمرة، كما ثبت من دراسات عالمية عدة لا يمكن أن يأتي من التعويضات المادية،

    فهل سنطلب مثلاً من وكلاء الوجبات السريعة التي تزدحم بها مدننا، أو من مصانع الحلوى التي تزيد معدلات السمنة وخطر الإصابة بمرض السكر واضطرابات الدهون وأمراض القلب، وما تتكلفه الدولة من نفقات باهظة، أو من إدارات المرور والبلديات أو شركات مقاولات الطرق التي لا تعنى بالأمن والسلامة في تخطيط الطرق والمدن، مما أدى إلى تفاقم الحوادث المرورية والإعاقات الجسدية المختلفة، أو من وزارة التعليم والتخطيط ووزارة العمل لسوء التخطيط والإعداد لسوق العمل التي خلقت لدينا نسب بطالة مفجعة بكل ملحقاتها من الاكتئاب والأمراض النفسية المكلفة أيضاً، هل سنطلب من كل هؤلاء تعويض الوزارة؟

    الأفضل هو انتهاج أسلوب الدفاع بدلاً من الهجوم، والوقاية بدلاً من العلاج، فتفعيل دور التثقيف الصحي الغائب، وإنشاء برامج الفحص المجاني، وربط هيئات المجتمع المختلفة ببرامج الوقاية يمكن أن يكون له أثر أفضل وأكبر في تقليل الإصابة، إذا اكتشف المدخن أن سعر الدخان مرتفع، وأنه لا يستطيع أن يدخن في مكان العمل، ولا في الأماكن العامة والمنشآت المغلقة، وأن غرامة كبرى ستفرض عليه في حال مخالفته للوائح، وأن بيع الدخان محصور في أماكن محدودة لا يسهل الوصول إليها، ويتطلب التحقق من بطاقته الشخصية لشرائها، وأنه لا يمكن شراء أكثر من عدد محدود من العلب في كل مرة فسيقل بالتأكيد استخدامه للدخان، وإذا صاحب ذلك حملات هادفة في الإعلام يتم فيها استخدام لغة المشاهد والمستمع السعودي، وأيضاً استخدام جاذبية نجوم المجتمع لدينا في الرياضة والأدب والفن والإعلام وغيره لصياغة رسائل قصيرة متكررة للتوعية يزيد من احتمالية الوصول إلى الهدف، ونشر عيادات العلاج من التدخين وتقييم أدائها بحيث لا تكون مستقبلة فقط للراغبين في الإقلاع عن التدخين، ولكن فاعلة في جذب المدخنين غير الراغبين أيضاً بزيارات إلى المدارس والجامعات وعرض برامجهم وتقييم أدائهم بشكل دوري لتفعيله وتطويره،

    فممارسة التدخين كعادة غير صحية هي محصلة نهائية ليس للسلوك والاختيار الشخصي فقط، ولكن أيضا للبيئة وللحالة المادية والنفسية والاجتماعية، ومن هنا لا يمكن النظر فقط إلى تغيير السلوك كهدف وحيد لحملات الوزارة، ولا بد أن يشمل إلى جوار ذلك أهدافاً أخرى، كدراسة الإجراءات الاجتماعية لتقليل التدخين، مثل أماكن بيع الدخان ووسائل مراقبة المدارس والأماكن العامة، والإجراءات الأمنية، وهل يمكن تحقيق نقص في عدد المدخنين بتفعيل بعض الأنظمة واللوائح والإجراءات المادية؟ وهل يمكن فرض ضريبة مرتفعة على شراء الدخان للتقليل من استخدامه؟ أما أن نفرض الصحة بالقوة والعافية فهذا أمر مستحيل، ولا يمكن تحقيقه بآلاف القضايا والتعويضات، سيكون هناك دائماً عدد كبير من المواطنين يتعرض للمرض وللإعاقة لعدم اهتمامه بصحته، أو تفريطه في الغذاء السليم، أو ممارسة الرياضة، أو قيادته المتهورة، أو سوء اختياره لأسلوب معيشته، أو حتى بسبب إقامته في بيئة غير صحية، والأفضل أن تصرف جهود موظفي الوزارة في تحقيق مسؤولية الوزارة وسد أوجه نقص العلاج والأدوية، وتوفير الأسرّة في المستشفيات التخصصية، ورفع كفاءة الطاقم الطبي والصحي العامل في علاج ومكافحة الأمراض، وتقليل الأخطاء الطبية، بدلاً من صرف الجهد في مطاردة الأحلام وتعبئة وحمل الصناديق الحديدية في متاهات المحاكم.

    الباطل صوته أعلى، وأبواقه اوسع، واكاذيبه لا تعد ولا تحصى، ولا يمكن ان تقف عند حد. فكيف اذا كان بعض ابطاله قد بات في نظر نفسه والعميان من حوله من انصاف آلهة.
Working...
X