معاناة أكثر من 200 ألف طفل توحد في المملكة
الوطن
عبدالله صادق دحلان
في الأسبوع الماضي أتيحت لي الفرصة لأن أشارك بإلقاء محاضرات في ثلاث مناسبات، الأولى عن الاقتصاد في عهد الملك فيصل بمناسبة إقامة معرض شاهد وشهيد للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز والثانية بمناسبة انعقاد الملتقى العلمي الأول لمراكز التوحد في العالم العربي ورئاسة الجلسة الأخيرة للملتقى والمحاضرة الثالثة كانت عن الوحدة الوطنية في النادي الأدبي بنجران بدعوة خاصة من زميلي عضو مجلس الشورى اللواء الدكتور فيصل أبو ساق. ونظراً لأهمية موضوع اليوم فقد قررت طرح قضيته قبل الكتابة عن موضوعي المحاضرتين الأخريين واللذين سأتناولهما في المقالات القادمة.
وما يدفعني اليوم لطرح موضوع أزمة وقضية أطفال التوحد في المملكة العربية السعودية والتي لم أكن أعرف عنها ومن المؤكد لا يعرف عنها كثيراً معظم القراء في المملكة وغيرها، لولا أن أثيرت هذه القضية خلال انعقاد الملتقى العلمي الأول لمراكز التوحد في العالم العربي والذي لولا جهود وزارة الشؤون الاجتماعية لما انعقد نظراً للبيروقراطية الإدارية التي نعاني منها عند إقامة المؤتمرات والندوات العلمية، ولولا جهود مواطنات سعوديات مخلصات لما انعقد هذا الملتقى. وأجدها مناسبة لأن أشيد بدور سمو الأميرة فهدة بنت سعود رئيسة مجلس إدارة الجمعية الفيصلية الخيرية النسائية بجدة والأميرة الجوهرة بنت فيصل بن تركي رئيسة مركز والدة الأمير فيصل بن فهد للتوحد بالرياض واللتين بذلتا جهداً متميزاً في إنجاح هذا الملتقى المتميز وبمشاركة سمو الأميرة لطيفة بنت ثنيان بن محمد آل سعود رئيسة اللجنة النسائية بمركز جدة لجمعية الأطفال المعوقين وبدعم ومساندة واستضافة من الغرفة التجارية الصناعية بجدة.
والحقيقة لقد أصبت بالإحباط الكبير عندما اطلعت على الإحصائيات والأرقام المخيفة عن مرض التوحد في المملكة العربية السعودية، حيث أوضحت إحدى الدراسات التي أعدها الدكتور عبدالعزيز الجار الله في عام (2004) بناءً على تكليف مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتكنولوجيا أن عدد الأطفال المصابين بمرض التوحد يتجاوز مئتي ألف طفل في المملكة العربية السعودية وهي الدراسة الوحيدة العلمية والميدانية والدقيقة التي أوضحت الحقائق التي تجاهلتها وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم ومراكز صحية أخرى، وهي الدراسة الوحيدة التي خرجت إلى دائرة الدراسة والحوار للمهتمين بهذه القضية. وبعد مرور أربع سنوات على نتائج هذه الدراسة يزداد الرقم نتيجة النمو السكاني ونتيجة بقاء الأسباب وعدم معالجتها، وأوضحت بعض الإحصائيات العالمية أن هناك طفل توحد لكل مئة طفل عادي. وأعلن الدكتور (باول شاتوك) رئيس المنظمة العلمية للتوحد أن هناك زيادة عالية في نسب أطفال التوحد في دول الخليج وعلى وجه الخصوص في المملكة العربية السعودية والكويت لأسباب تلوث بيئي نتيجة حرب الخليج. ويؤكد تصريح رئيس المنظمة العالمية للتوحد تقرير مصلحة الأرصاد وحماية البيئة في المملكة العربية السعودية والذي حذر في بعض فصول التقرير من خطورة الآثار السلبية من التلوث البيئي النووي والإشعاعي في منطقة شمال شرق المملكة في منطقة العلميات الحربية في حرب الخليج الأولى والثانية والتي استخدمت فيها دول التحالف جميع أنواع الأسلحة وجربت أسلحة جديدة كان لها تأثير بيئي خطير جداً، يؤثر على صحة الإنسان والحيوان. وطالبت الهيئة وطالب بعض أعضاء مجلس الشورى وأنا أحدهم عند مناقشة التقرير بضرورة مطالبة دول جيوش التحالف بقيمة مشروع تنظيف تلك المناطق من الملوثات البيئية التي تركتها أسلحتهم. وكما أوضحت بعض التقارير أن أحد أسباب زيادة نسب أطفال التوحد في مدينة جدة هو التلوث البيئي الخطير نتيجة سوء التعامل مع النفايات السائلة والجامدة واستخدام الأمانة لمواد كيماوية في رش مناطق النفايات. كما أوضح بعض التقارير أن المبيدات الحشرية والزراعية المستخدمة من قبل وزارة الزراعة تساهم في زيادة نسبة مرض التوحد في المملكة. كما نشر تقرير دولي مؤخراً يحذر من الآثار السلبية للتطعيمات للأطفال وسوء استخدامها.
ومن خلال رئاستي للجلسة الأخيرة للملتقى العلمي الأول لمراكز التوحد ومن خلال تبادل الحوار مع أولياء أمور أطفال التوحد ومسؤولين متخصصين أطباء واستشاريي قطاع خاص ومسؤولين في الدولة ومن خلال اطلاعي على العديد من البيانات والتقارير تأكد لي أن هناك قضية تحتاج إلى خطة وطنية لمعالجتها والبحث الدقيق في حلولها، على أن تكون الحلول من الجذور. وتأكد لي أن هناك قصوراً كبيراً في متابعة هذه القضية التي غاب الوزراء المعنيون وغاب وكلاؤهم وكبار المسؤولين لديهم عن حضور الجلسة الأخيرة والتي خصصت للحوار مع المسؤول الأول في الوزارة المعنية.
ورغم تقديري لظروف الوزراء المدعوين إلا أن القضية تمس شريحة كبيرة في مجتمعنا، وقد يكون عدم قيام الجهة المعنية بمسؤوليتها كما يجب ساهم في مضاعفة معاناة المعنيين بالقضية سواءً كانوا أطفال التوحد أو أهليهم. وهل يعلم المسؤولون في وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم فوزارة الشؤون الاجتماعية حجم المشكلة الحقيقية؟ وهل يعلمون حجم معاناة أولياء أمور مئتي ألف طفل توحد تخدمهم حوالي خمسين مركزاً وفصلاً معظمها ملحقة بالتربية الفكرية والأخرى مراكز خاصة غير مؤهلة ولا تقوم بدورها كما ينبغي؟ إن تعامل وزارة التربية والتعليم مع أطفال التوحد تعامل غير مستقر ويتغير بتغير المسؤولين بوزارة التربية والتعليم. فقبل سنوات كان قرار وزير التربية والتعليم بدمج الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة بمن فيهم طلبة التوحد في فصول الدراسة العادية وتم ذلك لفترة زمنية ثم بعد تغير قيادات وزارة التربية والتعليم ألغي القرار وتم تحويل أطفال التوحد إلى مراكز التربية الفكرية.
وهو قرار لم يحظ بقبول أولياء أمور أطفال التوحد، حيث إن مراكز التربية الفكرية تتعامل مع الأطفال ذوي الخلل الذهني الذي يختلف كليةً في طريقة المعالجة والتعليم والتدريب والتأهيل لطلبة التوحد، ولم تؤهل تلك المراكز لاستقبال طلبة التوحد ولم يؤهل لها معلمون من ذوي التخصص والتأهيل، وأصبحت عبارة عن مراكز لإيواء طلبة التوحد لفترة زمنية يومية دون استخدام الوسائل المتطورة لمعالجتهم وتأهيلهم، مما دفع بعضاً من أولياء الأمور لأبناء التوحد إلى إرسال أبنائهم إلى خارج المملكة نظراً لعدم وجود مراكز متخصصة ومؤهلة تأهيلاً عالياً. وقد هاجرت بعض الأسر مع أبنائها والبعض الآخر لم يستطع أن يتحمل تكاليف تأهيلهم خارج المملكة لظروفهم المالية فأودعوهم في المراكز المحلية ولكن دون استفادة فعلية. والبعض الآخر سجن أبناءه في غرف مغلقة في بيوتهم حتى يقضي الله أمرهم. وإنه من المؤسف جداً أن يكون هذا هو الحال في المملكة العربية السعودية. ومن يتابع دور بعض الحكومات في بعض الدول المتقدمة يلحظ فرقاً كبيراً في أسلوب وطريقة التعامل مع هؤلاء المرضى، فعلى سبيل المثال في بريطانيا تشجع الدولة القطاع الأهلي لإنشاء مراكز متخصصة لتعليم وتأهيل أطفال التوحد وتتحمل الدولة تكلفة التأهيل ولا توجد عقبات وشروط معقدة للقبول بعد التشخيص الطبي. وفي دول أخرى تقدم الدولة قروضاً طويلة الأجل للإنشاء والتجهيز للمراكز المتخصصة وتدعم تكلفة التشغيل بنسب تتراوح بين خمسين وسبعين في المئة. وفي المملكة تقدر التكلفة الفعلية للتأهيل العلمي والنفسي على يد متخصصين وخبراء في مراكز متميزة بمائة وعشرين ألف ريال. ونظراً لارتفاع التكاليف يلجأ أصحاب المراكز الخاصة إلى خفض الرسوم إلى حوالي ثلاثين ألف ريال أو أقل، مقابل تقديم خدمات محددة وغير متكاملة ولا تتعدى في بعضها عن مراكز إيواء لساعات محددة يومياً.
وخلاصة البحث أود أن أشخص القضية في ثلاثة محاور رئيسية، المحور الأول متعلق بالبحث عن الأسباب من جذورها، وهنا أشيد باتفاقية التعاون بين مراكز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة ومركز والدة الأمير فيصل بن فهد للتوحد، لإجراء دراسات وأبحاث عن مرض التوحد والعمل للوصول إلى نتائج تساهم في التخفيف من هذه القضية. وهذا يدفعني إلى مطالبة الجامعات ومراكز البحث العلمي بها إلى تفعيل دورها البحثي في هذا الموضوع وتقديم اقتراحات لأصحاب القرار في المملكة. وأتمنى أن تقود جامعة الملك عبدالله الجامعات في إعداد دراسة بحثية متخصصة.
أما المحور الثاني فهو مطالبة الأجهزة الحكومية الثلاثة، وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم ووزارة الشؤون الاجتماعية بتوحيد جهودهم ووضع خطة مشتركة لمعالجة هذه القضية، تبدأ وزارة الصحة بوضع إستراتيجية وخطة للتشخيص، حيث إن الجهود مبعثرة وتحتاج إلى تدخل الوزارات الثلاث لوضع الخطة وتكليف وزارة الإعلام بوضع خطة تثقيفية مستمرة. أما المحور الثالث فهو أن تقوم الدولة بتشجيع القطاع الأهلي بالاستثمار في إنشاء مراكز متخصصة وعلى مستوى عالٍ، على أن تقدم للمستثمرين قروضاً ميسرة بدون تعقيدات وضمانات المؤسسات التمويلية وبدون فوائد، على أن تتحمل الدولة تكلفة تعليم أطفال التوحد الفعلية وليس تقديم دعم سنوي. وإذا كانت الدولة تتحمل تكلفة تأهيل وتعليم بعض طلبة التوحد في بعض الدول المجاورة والتي تصل التكلفة إلى حوالي مئة ألف ريال، فلماذا لا تتحمل الدولة تكلفة تعليمهم مجاناً في المملكة؟
إن ما دفعني لطرح هذا الموضوع إعلامياً رغم أن معاناتي مع أطفال التوحد ليست شخصية وإنما معاناتي عامة، فكل طفل توحد هو طفلي وكل أسرة طفل توحد هي أسرتي. وكم كنت أتمنى أن يكون لدينا شبيه للأمير سلطان بن سلمان ليتصدى لقضية أطفال التوحد، فجمعية الأطفال المعاقين استطاعت أن تسهم في رفع معاناة عشرات الآلاف من الأبناء والأسر في المملكة. ولو اقتدت الجمعية السعودية للتوحد بخطة وسياسة جمعية الأطفال المعاقين لاستطاعت أن تحقق إنجازاً يغنينا عن طرح هذه القضية إعلامياً. آمل أن يعاد النظر في هيكلة الجمعية السعودية للتوحد وإضافة متخصصين وخبراء وأولياء أمور ورجال أعمال لمجلس إدارتها. والشكر للزميلة صاحبة التاريخ العريق في الخدمة العامة الأستاذة فوزية الطاسان المديرة العامة للجمعية الخيرية الفيصلية بجدة.
* كاتب اقتصادي سعودي
Comment