معاملتك لا تزال قيد العرض...
سعد عطية الغامدي - الوطن
لم يكن يعلم حين كان يتردد بابنته آخر العنقود ذات الست سنوات حقيقة مرضها لكنه كان يبصر معاناتها ويتألم لآلامها إن ارتفعت درجة حرارتها أو صرخت من الألم أو أخذتها الرعشة، كما لم يكن وحده في ذلك بل كان الأهل من حوله يعانون ما تعاني وما يعاني، ثم استقر بها وبهم المقام في مستشفى ذي سمعة فارهة ومقام رفيع في الرياض حيث بقيت أياماً وليالي لا تعرف ولا يعرفون حقيقة هذه الآلام ولا طبيعة العلة التي وراءها، وأخيراً كان القرار أن تؤخذ عينة من العظم ليصل الجميع إلى يقين أو ما يشبه اليقين في أمر بدأ يراودهم أن ورماً من الأورام هو سبب ما تعاني منه، وغادرت المستشفى بعد أخذ العينة وذهبت إلى البيت بآلامها كما هي وبمخاوفهم التي أخذت تزيد كل يوم.
أخذ الوالد يتردد على الطبيب من حين لآخر يسأله عن العينة وعن النتائج وتأتي الإجابة بالاعتذار تلو الاعتذار وهو يواصل التعقيب والطبيب يواصل الاعتذار والطفلة في آلام مبرحة والأسرة في خوف وقلق وانتظار وأرق، حتى كانت زيارة إلى الطبيب ذات يوم فوجد من الطبيب استقبالاً ودوداً على غير المعهود، وآنس منه بشاشة على غير سابقة فداهمته الوساوس واستبدت به الظنون وخشي أن هذه مقدمة أخبار غير سارة لكن الطبيب فاجأه بما لم يخطر له على بال: أخي الكريم العينة التي أخذناها من عظم ابنتك فقدت ولم نعثر عليها ونريد أن نحصل على أخرى فأت بها، وحار الأب في أمره وود لو أنه يستطيع أن يفعل شيئاً.. أي شيء.. غير الكلام لكنه تمالك وقال في هدوء : أتدري أن العينة هي من العظم وإنه أرحم على نفسي أن تأخذ مني ما شئت من عظمي على أن تأخذ من ابنتي شيئاً.
ثم تطرق الحديث عن البدائل في سبل العلاج أو قل التشخيص فأوضح له أن وجهته الصحيحة إن أراد مصلحة ابنته هي الولايات المتحدة ولأن الأب يعرف عن تعقيدات التأشيرة ويسمع عن المعاملة غير اللائقة التي يتعرض لها المسافرون في السفارات وفي المطارات، كان يحاول أن يجد من طبيب ابنته ما يقنعه بأن بلداً آخر كألمانيا أو بريطانيا يؤدي الغرض نفسه لكنه بقي على موقفه من أن ذلك المستشفى الذي ذكره له في الولايات المتحدة هو أفضل مكان للأطفال وربما لحال ابنته التي عايشها على مدى الأشهر الماضية، وأن عليه أن يحتمل ما يراه من مشقة الإجراءات والموافقات حتى يجد لها مكاناً مناسباً، وأن الموضوع يستحق منه الاهتمام والجهد والمشقة.
أرسل أوراقه إلى المستشفى في أمريكا وجاء الرد بطلب المزيد من الفحوص وأخبرهم أن العينة فقدت وأنه لا يملك إلا ما أرسل إليهم إضافة إلى ما توفر لديه من وثائق وجاءت موافقة المستشفى وكتب إلى السفارة في الرياض فأعطوه موعداً بعيداً ثم أرسل يوضح لهم سوء وضع ابنته الصحي فاختاروا له موعداً في الصباح الباكر خارج صفوف الانتظار، وفعلاً وجد اسمه في البوابة ووجد هناك من يستقبله وفي دقائق معدودات كانت لديه موافقة مبدئية أما بالنسبة له فقد أعطوه موعداً يراجعهم فيه لإجابة نهائية جاءت في موعدها بالإيجاب، وقد خففت هذه المعاملة اللطيفة وهذا الاستثناء في الإجراءات من جوانب المعاناة الأخرى على اعتبار أن باب أمل في العلاج قد أصبح يتشكل أمامه ويعينه على مساعدة ابنته والتخفيف عن نفسه وأسرته.
لم يجد أمامه إلا أن يقترض ويسافر فابنته أهم عنده من هذه الدنيا فهي دنياه، ووصل إلى أول مطار في أمريكا فوجد أن الأمور أيسر بكثير مما سمع ولم يأخذ الوقت ـ كما يروي ـ أكثر من خمس وأربعين دقيقة من ملامسة عجلات الطائرة مدرج المطار إلى الوقوف أمام موظف الاستقبال في الفندق، وفي المستشفى وجد من التعامل الرقيق والأدب الرفيع ما أسهم في شعوره بالطمأنينة بل وجد لدى الطبيب من التودد والتلطف ما أنساه كثيراً من المعاناة وكثيراً من القلق، ويخبر كيف كان الطبيب يحاضر عليه وعلى مرافقيه وصديق له في أمريكا في غرفة أشبه بفصل دراسي ويوضح لهم جوانب من التشخيص ويقارن بين الأشعة هناك وهنا، ويقول إن الإجراءات في الرياض سليمة ولكن الاستنتاجات خاطئة، وأكبر خطأ هو عينة العظام لأنها مخاطرة قد تكون عواقبها كارثية !!
ويذهله أن يتلقى خطاباً عبر العلاقات العامة من إحدى الجمعيات الخيرية الأمريكية يقولون له فيه بأننا علمنا أنك تعالج ابنتك على حسابك الخاص وإننا نعرض صرف كافة النفقات التي تحملتها في سبيل ذلك كله، وأحس بأن الآلام تعتصره والدهشة تكاد تلجمه كيف يعرض هؤلاء أن يصرفوا عليه وهو لم يسألهم ولم يخطر بباله أن يطلب منهم، وتذكر كيف رده أحد البيروقراطيين في بلده ذات يوم ومنعه حقاً رأى أنه يستحقه.
ليس بالضرورة أن يكون الإتقان حكراً على مجتمع من المجتمعات أو بيئة حكومية كانت أم غير حكومية، بل هو في أولئك الذين يسعون جاهدين إلى جعله في أعمالهم وخدمة الآخرين والتخفيف عنهم شأناً يومياً ورسالة يشعرون أن عليهم ممارستها حتى تكون الحياة ميداناً رحباً لصفات جميلة يتقاسمها البشر، وبالمقابل هناك من يشعرون أن بإمكانهم التنغيص والتضييق على آخرين ولا يجدون الراحة إلا في ذلك، ولم يخفف من آلام صاحبنا إلا طمأنة الطبيب له بأن حالة ابنته فيها من اللطف الشيء الكثير حيث إن الترقق الذي تعرضت له بعض عظامها أخذ يعالج نفسه بنفسه في ظاهرة غريبة عليه وطلب أن يعود بها مرة أخرى بعد أربعة أشهر وفي طائرة العودة إلى المملكة كان هناك العديد من الأطباء عائدين من دورات أو مؤتمرات من جنسيات مختلفة وحين أخبرهم عن ضياع العينة سألوه : أكان أخذها يوم أربعاء ؟ قال نعم وسألهم لماذا ؟ قالوا لأن ذلك هو أكثر يوم تضيع فيه العينات، وحين وصل الرياض أرسل من يبحث أمر معاملته في الهيئة فرد عليه الموظف: المعاملة لا تزال قيد العرض !!!
*كاتب سعودي
سعد عطية الغامدي - الوطن
لم يكن يعلم حين كان يتردد بابنته آخر العنقود ذات الست سنوات حقيقة مرضها لكنه كان يبصر معاناتها ويتألم لآلامها إن ارتفعت درجة حرارتها أو صرخت من الألم أو أخذتها الرعشة، كما لم يكن وحده في ذلك بل كان الأهل من حوله يعانون ما تعاني وما يعاني، ثم استقر بها وبهم المقام في مستشفى ذي سمعة فارهة ومقام رفيع في الرياض حيث بقيت أياماً وليالي لا تعرف ولا يعرفون حقيقة هذه الآلام ولا طبيعة العلة التي وراءها، وأخيراً كان القرار أن تؤخذ عينة من العظم ليصل الجميع إلى يقين أو ما يشبه اليقين في أمر بدأ يراودهم أن ورماً من الأورام هو سبب ما تعاني منه، وغادرت المستشفى بعد أخذ العينة وذهبت إلى البيت بآلامها كما هي وبمخاوفهم التي أخذت تزيد كل يوم.
أخذ الوالد يتردد على الطبيب من حين لآخر يسأله عن العينة وعن النتائج وتأتي الإجابة بالاعتذار تلو الاعتذار وهو يواصل التعقيب والطبيب يواصل الاعتذار والطفلة في آلام مبرحة والأسرة في خوف وقلق وانتظار وأرق، حتى كانت زيارة إلى الطبيب ذات يوم فوجد من الطبيب استقبالاً ودوداً على غير المعهود، وآنس منه بشاشة على غير سابقة فداهمته الوساوس واستبدت به الظنون وخشي أن هذه مقدمة أخبار غير سارة لكن الطبيب فاجأه بما لم يخطر له على بال: أخي الكريم العينة التي أخذناها من عظم ابنتك فقدت ولم نعثر عليها ونريد أن نحصل على أخرى فأت بها، وحار الأب في أمره وود لو أنه يستطيع أن يفعل شيئاً.. أي شيء.. غير الكلام لكنه تمالك وقال في هدوء : أتدري أن العينة هي من العظم وإنه أرحم على نفسي أن تأخذ مني ما شئت من عظمي على أن تأخذ من ابنتي شيئاً.
ثم تطرق الحديث عن البدائل في سبل العلاج أو قل التشخيص فأوضح له أن وجهته الصحيحة إن أراد مصلحة ابنته هي الولايات المتحدة ولأن الأب يعرف عن تعقيدات التأشيرة ويسمع عن المعاملة غير اللائقة التي يتعرض لها المسافرون في السفارات وفي المطارات، كان يحاول أن يجد من طبيب ابنته ما يقنعه بأن بلداً آخر كألمانيا أو بريطانيا يؤدي الغرض نفسه لكنه بقي على موقفه من أن ذلك المستشفى الذي ذكره له في الولايات المتحدة هو أفضل مكان للأطفال وربما لحال ابنته التي عايشها على مدى الأشهر الماضية، وأن عليه أن يحتمل ما يراه من مشقة الإجراءات والموافقات حتى يجد لها مكاناً مناسباً، وأن الموضوع يستحق منه الاهتمام والجهد والمشقة.
أرسل أوراقه إلى المستشفى في أمريكا وجاء الرد بطلب المزيد من الفحوص وأخبرهم أن العينة فقدت وأنه لا يملك إلا ما أرسل إليهم إضافة إلى ما توفر لديه من وثائق وجاءت موافقة المستشفى وكتب إلى السفارة في الرياض فأعطوه موعداً بعيداً ثم أرسل يوضح لهم سوء وضع ابنته الصحي فاختاروا له موعداً في الصباح الباكر خارج صفوف الانتظار، وفعلاً وجد اسمه في البوابة ووجد هناك من يستقبله وفي دقائق معدودات كانت لديه موافقة مبدئية أما بالنسبة له فقد أعطوه موعداً يراجعهم فيه لإجابة نهائية جاءت في موعدها بالإيجاب، وقد خففت هذه المعاملة اللطيفة وهذا الاستثناء في الإجراءات من جوانب المعاناة الأخرى على اعتبار أن باب أمل في العلاج قد أصبح يتشكل أمامه ويعينه على مساعدة ابنته والتخفيف عن نفسه وأسرته.
لم يجد أمامه إلا أن يقترض ويسافر فابنته أهم عنده من هذه الدنيا فهي دنياه، ووصل إلى أول مطار في أمريكا فوجد أن الأمور أيسر بكثير مما سمع ولم يأخذ الوقت ـ كما يروي ـ أكثر من خمس وأربعين دقيقة من ملامسة عجلات الطائرة مدرج المطار إلى الوقوف أمام موظف الاستقبال في الفندق، وفي المستشفى وجد من التعامل الرقيق والأدب الرفيع ما أسهم في شعوره بالطمأنينة بل وجد لدى الطبيب من التودد والتلطف ما أنساه كثيراً من المعاناة وكثيراً من القلق، ويخبر كيف كان الطبيب يحاضر عليه وعلى مرافقيه وصديق له في أمريكا في غرفة أشبه بفصل دراسي ويوضح لهم جوانب من التشخيص ويقارن بين الأشعة هناك وهنا، ويقول إن الإجراءات في الرياض سليمة ولكن الاستنتاجات خاطئة، وأكبر خطأ هو عينة العظام لأنها مخاطرة قد تكون عواقبها كارثية !!
ويذهله أن يتلقى خطاباً عبر العلاقات العامة من إحدى الجمعيات الخيرية الأمريكية يقولون له فيه بأننا علمنا أنك تعالج ابنتك على حسابك الخاص وإننا نعرض صرف كافة النفقات التي تحملتها في سبيل ذلك كله، وأحس بأن الآلام تعتصره والدهشة تكاد تلجمه كيف يعرض هؤلاء أن يصرفوا عليه وهو لم يسألهم ولم يخطر بباله أن يطلب منهم، وتذكر كيف رده أحد البيروقراطيين في بلده ذات يوم ومنعه حقاً رأى أنه يستحقه.
ليس بالضرورة أن يكون الإتقان حكراً على مجتمع من المجتمعات أو بيئة حكومية كانت أم غير حكومية، بل هو في أولئك الذين يسعون جاهدين إلى جعله في أعمالهم وخدمة الآخرين والتخفيف عنهم شأناً يومياً ورسالة يشعرون أن عليهم ممارستها حتى تكون الحياة ميداناً رحباً لصفات جميلة يتقاسمها البشر، وبالمقابل هناك من يشعرون أن بإمكانهم التنغيص والتضييق على آخرين ولا يجدون الراحة إلا في ذلك، ولم يخفف من آلام صاحبنا إلا طمأنة الطبيب له بأن حالة ابنته فيها من اللطف الشيء الكثير حيث إن الترقق الذي تعرضت له بعض عظامها أخذ يعالج نفسه بنفسه في ظاهرة غريبة عليه وطلب أن يعود بها مرة أخرى بعد أربعة أشهر وفي طائرة العودة إلى المملكة كان هناك العديد من الأطباء عائدين من دورات أو مؤتمرات من جنسيات مختلفة وحين أخبرهم عن ضياع العينة سألوه : أكان أخذها يوم أربعاء ؟ قال نعم وسألهم لماذا ؟ قالوا لأن ذلك هو أكثر يوم تضيع فيه العينات، وحين وصل الرياض أرسل من يبحث أمر معاملته في الهيئة فرد عليه الموظف: المعاملة لا تزال قيد العرض !!!
*كاتب سعودي