ديناميكية العمالة في القطاع الحكومي
الاقتصادية
سعود بن هاشم جليدان
يسود اعتقاد بين معظم الناس أن الحصول على عمل مضمون ولو انخفض أجره أفضل من الجري وراء أعمال تحفها المخاطر حتى لو كانت تدر دخولاً أكبر. ويميل جزء كبير من العمالة السعودية إلى البقاء في الوظائف الحكومية حيث توفر أماناً وظيفيا، وأماناً في مستوى الأجور والمنافع على الأمد الطويل، إضافة إلى أن مستوى الأجور في القطاع الحكومي خلال السنوات الأخيرة أعلى بوجه عام من مستويات الأجور في القطاع الخاص. وشهدت بعض القطاعات الحكومية تكدساً كبيراً لموظفين منخفضي الإنتاجية بسبب الأمان الوظيفي المؤمن حتى للمقصرين منهم، الذين لا يؤدي بعضهم أعمالاً تبرر استمرارهم في الأعمال الحكومية. وهذا ناتج عن صعوبة فقدان العاملين في القطاع الحكومي وظائفهم، بل وصعوبة حجب المزايا الوظيفية عن غير المستحقين إلا في حالات نادرة. وأدى هذا إلى ما يسمى عشعشة الموظفين في الوظائف الحكومية, ما ولد جموداً كبيرا في الكوادر الحكومية.
وأدى عدم توافر معايير سليمة لقياس معايير الإنتاجية للموظفين الحكوميين إلى انخفاض حاد في إنتاجية نسبة كبيرة من الموظفين الحكوميين. وتستخدم الأقدمية بصورة شبه كلية أو على الأقل كأهم معيار لقياس تحسن إنتاجية الموظفين وترقيتهم، ما أدى في كثير من الأحيان إلى تولي غير الأكفاء وظائف الإدارتين المتوسطة والعليا. وتسبب هذا المبدأ في تراكم كبار السن من الموظفين في الوظائف القيادية وحرمان الأصغر سناً مهما كانت كفاءتهم من تولي الوظائف العليا. ومن الملاحظ أنه مع مرور الوقت تميل الكوادر الحكومية إلى ارتفاع متوسط أعمارها وانخفاض نسبة دخول المؤهلين والكفاءات الجديدة. ويتطلب الحد من البيروقراطية الحكومية التي تزداد مع مرور الوقت, بل أصبحت تضع العوائق في طريق الأنشطة الاقتصادية دخول دماء جديدة كفؤة وقادرة على التحديث والعمل الجاد. فهل من الأفضل للاقتصاد الوطني والجهاز الحكومي الذي يوظف نسبة كبيرة من السعوديين ثبات العمالة في وظائف معينة وفي أماكن معينة وعدم تركها تلك الأعمال والأماكن أم أن من الأفضل جعل الاقتصاد الوطني والأجهزة الحكومية بالذات أكثر ديناميكية وتحفيزها على التغيير نحو الأفضل؟
ولا يخفى على أحد أن توفير حد أدنى من الديناميكية ورفع قابلية العمالة الحكومية على الحركة أفضل للاقتصاد الوطني وللجهاز الحكومي. فمن الواضح وجود جمود, خصوصاً في الكوادر العليا والوسطى العاملة في كثير من الأجهزة الحكومية, ما أدى إلى ظهور بل استفحال الروتين الحكومي، وبطء الإجراءات، والإصرار على استمرار المعوقات في هذه الأجهزة، وتميزها بمقاومة كبيرة للتغيير، وتراجع مستويات أدائها، وانخفاض إنتاجية موظفيها وتدني معايير الخدمات التي تقدمها هذه الأجهزة.
ولا يمكن رفع قابلية العمالة للحركة التي تولد ديناميكية في القطاع الحكومي دون إجراء تغيير في بعض الأساليب المتبعة, التي من أهمها وضع وتفعيل حدود عليا للفترات الزمنية التي يظل فيها موظفو الإدارتين المتوسطة والعليا في مناصبهم دون تغيير. التغيير الدوري للمناصب القيادية المبني على تحقيق الإنجازات يقود إلى تحسن أداء الإدارات الحكومية. ويمكن قياس الإنجازات وفق مؤشرات ومعايير سليمة محددة لكل إدارة وتكون أساساً لترقية ومكافأة الموظفين والمديرين، بدلاً من منح الترقيات وتقليد المناصب الأعلى على أسس الأقدمية التي مكنت الأقل قدرةً من الموظفين من تقلد مناصب عليا.
ويصعب في الوقت الحالي الحصول على عمل حكومي, لكن من السهل جداً المحافظة عليه، وأعتقد أن العكس يجب أن يحدث، حيث ينبغي أن يتمكن المواطنون من الحصول على عمل حكومي بسهولة أكبر, لكن ينبغي أن يبذل الموظفون مجهوداً أكبر للمحافظة على أعمالهم, فمخصصات الوظائف الحكومية ليست صدقات أو هبات تمنح على أساس المواطنة فقط, إنما هي أعمال حقيقية تؤدي خدمات للمواطنين كافة، وعلى شاغليها أداء هذه الخدمات بكفاءة ونزاهة. ومن الأصوب إزاحة من ليس لديه استعداد لأداء الواجبات المنوطة به في المراكز الحكومية وشغل الوظائف العامة بمن لديه الاستعداد والمقدرة لأداء واجبات العمل الحكومي.
إن رفع قابلية الحركة للعمالة في القطاع الحكومي سيبث دماء جديدة باستمرار في الجهاز الحكومي ويرفع من مستويات أدائه، كما سيدفع العمالة الحكومية الموجودة على رأس العمل للعمل بجدية أكبر للمحافظة على وظائفها، ويرفع بذلك من مستويات الإنتاجية الحكومية التي ستخفض من مستويات المعوقات التي تضعها البيروقراطية الحكومية وتتسبب في خفض الإنتاجية في الاقتصاد ككل.
وتعوق بعض أنظمة الموظفين قابلية العمالة على الحركة بين الأجهزة الحكومية وبين القطاع الحكومي والقطاعات الأخرى. ومن هذه الأنظمة مثلاً بعض أنظمة التقاعد التي تلعب دوراً في عشعشة بعض الموظفين. وحل ربط أنظمة التقاعد بين القطاعين الحكومي والخاص من معضلة ترك الخدمة الحكومية إلى الخاصة وبالعكس، لكن لا تظل هناك بعض القيود في أنظمة التقاعد, التي منها مثلاً ربط مكافأة نهاية الخدمة بسن الـ 60. فلو تقاعد شخص عند سن الـ 59 فلا يستحق مكافأة ترك الخدمة, ما يرفع من تكاليف التقاعد المبكر لدى عديد من الموظفين, خصوصاً كبار الموظفين ويدفعهم للبقاء لمدة عام إضافي أو أكثر في العمل الحكومي للحصول على المكافأة. ولو تم تعديل أساس استحقاق مكافأة ترك الخدمة بحيث يمكن الحصول عليها في السنة أو السنتين الأخيرتين من الخدمة الحكومية لرفع ذلك من قابلية حركة العمالة الحكومية وزاد ديناميكية المؤسسات الحكومية. إن الحد من الأنظمة المعوقة لحركة تنقل العمالة خطوة جيدة لرفع مستويات الكفاءة ورفع مستويات الإنتاجية في الاقتصاد ككل.